إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا إِنَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ:
فذلك من دلالة الاختراع، وفيه من قياس الأولى ما يدل على البعث بداهة، فإن من أوجد ابتداء على غير مثال سابق أقدر على الإعادة، فلا يعجزه الأدنى إذ لم يعجزه الأعلى من باب أولى.
لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ بِالْقِسْطِ: فذلك الشطر الأول من القسمة العقلية.
وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ شَرَابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ: فذلك الشطر الثاني منها على ما اطرد في التنزيل من اقتران نصوص الوعد بنصوص الوعيد، وقد أطنب في مقام الوعيد إمعانا في الترهيب، إذ درء المفاسد مقدم على جلب المصالح فخص بذكر صنف منه: (شَرَابٌ مِنْ حَمِيمٍ)، ثم عم بذكره منكرا موصوفا بالإيلام على حد المبالغة: (وَعَذَابٌ أَلِيمٌ)، فضلا عن تقديم ما حقه التأخير: (لَهُمْ) حصرا وتوكيدا، ثم ذيل بالعلة قطعا للحجة: (بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ).
هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا: فذلك من دلالة الإيجاد، فهو الذي جعلها بقدرته الكونية على هذا الوصف، فالشمس: جرم يشع بالضياء، والقمر: جرم يسقط الضياء عليه ليصدر نورا منعكسا.
وجعله صاحب التحرير والتنوير، رحمه الله، من باب الخصوص والعموم المطلق، فكل ضياء نور ولا عكس، فالنور يشمل: الضياء القوي والضوء الضعيف، فيكون الضياء جزءَ مدلوله، وقد يطلق أحدهما ويراد به الآخر، على ما اطرد من اختلاف الدلالة: اقترانا وافتراقا. فإذا اقترنا: صار أحدهما جنسا أعلى للآخر، وإذ افترقا صارا على حد الترادف فاستعمل كل منهما محل الآخر.
وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ: فذلك من دلالة العناية، فلام التعليل مئنة من ذلك.
مَا خَلَقَ اللَّهُ ذَلِكَ إِلَّا بِالْحَقِّ: فذلك من دلائل ربوبيته العامة، فـ:
يُفَصِّلُ الْآَيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ: الكونية لقوم يعلمون، ففيه تعريض بمن لم ينتفع بتلك الآيات الكونيات الباهرات فهو على حد الجهل، وإن كان عالما بظاهرٍ من الحياة الدنيا.
ثم أطنب في بيان صور من دلالة الإيجاد فـ:
إِنَّ فِي اخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ: خصوصا.
وَمَا خَلَقَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ: عموما، فالليل والنهار من أفراد عموم خلقه فهو الذي جعل الظلمات والنور.
لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَّقُونَ: إذ نظروا في آيات الكون نظر تدبر وتأمل فأداهم ذلك النظر الصحيح إلى وجوب اتباع أمر الشرع، ففيه صلاح الدين والدنيا، فحصلوا وصف التقوى، وفيه، أيضا، تعريض بمن تولى عن ذلك النظر النافع، فأعرض ابتداء، أو نظر: نظر بادي الرأي الذي تعلق بصره بالسبب وغفل قلبه عن مسبِِِِِِِّبه، جل وعلا، فعلمه علم بظاهر من أسباب التسيير في الدنيا، وليس له من علم أسباب النجاة في الآخرة نصيب.
والله أعلى وأعلم.
ـ[مهاجر]ــــــــ[31 - 08 - 2009, 07:43 ص]ـ
ومن الأدلة التي جمع فيها بين دلالة الإيجاد بإحياء الأرض الموات، ودلالة العناية بإخراج الثمرات وطيب الأرزاق:
قوله تعالى: (وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَابًا ثِقَالًا سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَنْزَلْنَا بِهِ الْمَاءَ فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ كَذَلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتَى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ)
فـ: هُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ: إرسالا كونيا على حد قوله تعالى: (وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ)، فهي لواقح الأرض بالإنبات ولواقح الشجر بالإثمار، وجمعت الرياح على ما اطرد من كونها رحمات فذلك من جنس دلالة العناية بالخلق، إذ امتن الله، عز وجل، عليهم، برحمات مجموعة.
وقرئ بالإفراد، وقد أزالت الحال المقيدة: "بشرا" الإجمال برفع احتمال العذاب، إذ لا تكون بشرى بعذاب في مقام الامتنان، وإنما يكون ذلك في مقام التهكم كما حده البلاغيون في مبحث الاستعارة العنادية إذ لا تجتمع البشرى والعذاب.
¥