ثم كرر النداء في معرض النصح والإرشاد:
وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ: فذلك من التكليف الشرعي.
يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ وَلَا تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ
: إرسالا كونيا، على حد الامتنان، فذلك من دلالة العناية، فبالحسنات الشرعية تستنزل الرحمات الكونية، وحذف الشرط المقدر الذي جزم الفعل في جوابه، على الراجح في مسألة جزم المضارع في جواب الأمر مسارعة إلى بيان الثواب في معرض الحض على الامتثال فذلك مما يقويه ويعضده.
وفي سياق تال:
قَالُوا يَا هُودُ مَا جِئْتَنَا بِبَيِّنَةٍ وَمَا نَحْنُ بِتَارِكِي آَلِهَتِنَا عَنْ قَوْلِكَ وَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ:
فأصروا على التولي والكفران إذ تكرار النفي مئنة من ذلك.
إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَرَاكَ بَعْضُ آَلِهَتِنَا بِسُوءٍ قَالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ مِنْ دُونِهِ:
وذلك من فساد تصورهم العلمي، إذ اعتقدوا النفع، وهو متعلق العناية، والضر، في غير الله، عز وجل، على حد الاستقلال بالتأثير في المقدورات الكونية، فأداهم ذلك إلى الخضوع له: خصوع العابد المنقاد للمعبود، ففساد في العلم أنتج فسادا في العمل، ولذلك سارع هود، عليه السلام، بإظهار البراءة:
ثم تحداهم إمعانا في بيان عجز آلهتهم عن إيقاع الضر أو إيصال النفع: فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لَا تُنْظِرُون.
إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آَخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ: فاستدل على المطلوب الشرعي بدلالة الاختراع والعناية معا في قوله: (مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آَخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا)، فهو آخذ بالنواصي: إذ أوجد ولو شاء لأعدم، وتلك من دلالة الإيجاد وآخذ بها إذ أعد ولو شاء لأهمل، وآخذ بها إذ أمد ولو شاء لمنع، فتلك من دلالة العناية.
ثم أطنب في معرض التهديد:
فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ مَا أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَيْكُمْ وَيَسْتَخْلِفُ رَبِّي قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلَا تَضُرُّونَهُ شَيْئًا إِنَّ رَبِّي عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ: فإن توليتم عن أمره الشرعي جرت عليكم سنة الاستبدال الكونية النافذة، فمن أوجدكم من عدم غير عاجز عن إيجاد غيركم إذ قعدتم عن إقامة شرعه في أرضه، فما أوجدكم إلا لذلك، فإن عدلتم عنه، عدلتم عن مراده الشرعي منكم، فحلت عليكم عقوبته الكونية المقدرة، وذلك أصل مطرد في باب الثواب والعقاب الإلهي، وسنن الله، عز وجل، الشرعية والكونية تجري وفق نسق محكم بديع يدل على قدرة وحكمة مجريها عز وجل.
والله أعلى وأعلم.
ـ[مهاجر]ــــــــ[02 - 09 - 2009, 08:46 ص]ـ
ومن دعاء يوسف الصديق عليه السلام:
(رَبِّ قَدْ آَتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ):
فصدر الدعاء بوصف الربوبية فهو بدلالة العناية من إيتاء الملك وتعليم التأويل، ودلالة الاختراع من فطر السماوات والأرض أليق.
ووصف الإيتاء أبلغ في تقرير المنة الربانية، فالإيتاء لا يقبل المطاوعة، بخلاف الإعطاء، فإنه مما يقبلها، وقد تقرر من كلام الصرفيين أن ما يقبل المطاوعة أضعف دلالة مما لا يقبلها، فالإعطاء أضعف من جهة الدلالة المعنوية على انتقال ملكية الشيء إلى الموهَب، والإيتاء أقوى دلالة منه على هذا المعنى، لما تقدم، وفي التنزيل: (وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى آَتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ)، فقد ورد في مواضع عدة في معرض تقرير المنة الربانية على الأنبياء، عليهم السلام، بنعمة النبوة وما تتضمنه من العلوم والحكم، فهي، كما تقدم، في أكثر من موضع أعظم المنن الربانية على النوع الإنساني فهي التي أنارت الصدور، وردت جيوش الشبهات والشهوات عن القلب والبدن، فانكسرت شوكتها بأخبار الوحي الصادقة التي أزالت كل شبهة، وأحكامه العادلة التي دفعت كل شهوة، إذ بها شغل المحل
¥