تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

بالنافع فلم يعد للضار محل قابل، فعمرت الجوارح بالطاعات، وطهرت النفوس بأنواع من التزكيات الشرعية أغنتها عن كل طريقة بدعية.

وأطنب يوسف الصديق عليه السلام في بيان تلك المنن فشملت كما تقدم:

العناية به، إذ نشأ في بيت العزيز فنجاه الله من كيد إخوته، وأخرجه من السجن عزيزا مرفوع الرأس، وآتاه الملك فصار على خزائن مصر وهي آنذاك بلغة العصر: السلة الغذائية لجميع أقطار الأرض فعليها وفدت الوفود لما وقعت المجاعة، بخلاف ما آلت إليه اليوم، إذ أصبحت سلة عالمية ولكن: للفقر، وصارت أهلها حقل تجارب للمحاصيل الردية، أو لكناسة مستودعات الدول العظمى، إن شئت الدقة، وذلك من شؤم مخالفة الوحي، فقد أنقذها الله، عز وجل، من السبع العجاف، بتأويل نبي كريم لرؤيا مَلِكِها، فلما امتثلت أمره، وعملت بمشورته المباركة، صارت أغنى أقطار المعمورة، فذلك على العكس مما تقدم: من بركة اتباع الوحي، فالنبوات هي العلة المطردة المنعكسة للنماء والخير، متى وجدت على حد السلطان الحاكم وجد كل خير شرعي وكوني، ومتى عزلت عن منصب السلطنة، كما هو الحال اليوم، فُقِدَ ذلك الخير ووجد نقيضه من الشر العاجل بفساد الأديان أصلا وفساد الأبدان فرعا.

والشاهد أنه، جل وعلا، امتن عليه بما تقدم، وامتن عليه بأن جاء بأهله من البدو، وعلمه تفسير الرؤى، فهو الذي عبر رؤيا الملك فأنقذ الله، عز وجل، بتأويله مصر من الهلاك، وكل ذلك كما تقدم من: دلالة العناية، وإن كانت في هذا السياق: عناية خاصة لنبي كريم، فليست على حد العناية العامة بإجراء الأرزاق وتيسير أسبابها لكل الكائنات.

ثم أردف بين يدي دعواه: "فاطر السماوات"، فذلك من التوسل المشروع بأسماء الرب، جل وعلا، إذ ذلك من أسمائه المقيدة، فلا يوصف بها الله، عز وجل، على حد الإطلاق، فيقال من أسماء الله عز وجل: الفاطر، لعدم ورود الوحي بذلك الإطلاق، وذلك باب غيبي مستنده خبر الوحي الصحيح، وإنما يقال من أسمائه المقيدة: "فاطر السماوات"، أو من أوصاف فعله: فطر السماوات والأرض على غير مثال سابق، فذلك نص في الدلالة على الإيجاد والاختراع، بل هو من أظهر صور الاختراع إذ الفطر، كما تقدم، إبداع لما لا نظير سابق له، ليحتمل المحاكاة أو التقليد، بل هو خلق على غير مثال سابق تظهر به قدرة الرب، جل وعلا، على الإيجاد، ولا يكون ذلك بداهة إلا عن علم قد تقدم، بكنه ووصف ذلك الموجود، فله، عز وجل، من العلم الأزلي المحيط بحقائق وأوصاف الكائنات على جهة التفصيل الدقيق، وله من القدرة على إخراج ذلك من العدم إلى الوجود، وله من الحكمة في إخراجه على النحو الذي تتحقق به أعظم المصالح، وإن غفل عنها من غفل، بادي الرأي، له من كل ذلك ما يجعل خلقه: أكمل خلق فذلك إيجاده، ونعمته: أعظم نعمة فتلك عنايته.

والإضافة في: "فاطر السماوات": إضافة تفيد التعريف بخلاف ما اطرد من إضافة الوصف إلى معموله التي لا تفيد إلا التخفيف، إذ ذلك إنما يكون في الأوصاف الطارئة، بخلاف أوصاف الرب، جل وعلا، فهي لذاته القدسية لازمة، إما لزوم الصفة نفسها في صفات الذات، أو لزوم نوعها في صفات الأفعال، وإن حدثت آحادها، فلم يكتسب الرب، جل وعلا، وصفا كمال طارئ، بل هو، تبارك وتعالى، بكل أوصاف الكمال متصف من الأزل إلى الأبد، ولا يعتريه بينهما نقص أو خلل، وقد حقق تلك النكتة الشيخ العلامة محمد محيي الدين عبد الحميد، رحمه الله، في حاشية: "سبيل الهدى" على: "شرح قطر الندى".

أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ: فتلك ولاية إيمانة خاصة فضلا عن الولاية الكونية العامة التي تشترك فيها كل الخلائق، وقد قصرها بتعريف الجزأين إمعانا في تقرير المنة الربانية الكونية والشرعية عليه فهو عبد باعتبار المنة الكونية، عابد بل من سادة العابدين باعتبار المنة الشرعية، فتحقق له من كمال الولاية ما صح بل حسن معه القصر على حد التخصيص والتوكيد.

ثم ذيل عليه السلام بدعاء المسألة مراد كل العباد الربانيين والأنبياء عليهم السلام صفوتهم:

تَوَفَّنِي مُسْلِمًا: فالحال هي محط الفائدة فالكل متوفى لا محالة وإنما الشأن كل الشأن فيمن رزق كمال النهاية.

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير