تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ: فذلك من عطف اللازم على ملزومه، فلا صالح عند التحقيق إلا من سلك طريق الوحي ابتغاء مرضاة الرب، جل وعلا، فجعله الحكم في كل أمره، والمهيمن على كل شأنه.

والله أعلى وأعلم.

ـ[مهاجر]ــــــــ[03 - 09 - 2009, 09:05 ص]ـ

ومن قوله تعالى: (وَلَقَدْ جَعَلْنَا فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَزَيَّنَّاهَا لِلنَّاظِرِينَ وَحَفِظْنَاهَا مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ (17) إِلَّا مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ مُبِينٌ):

فالجعل في معرض بيان دلالة الإيجاد والاختراع: جعل كوني، فجعل الله، عز وجل، على معنى الخلق والتقدير، في السماء: بروجا نكرت مئنة من عظم شأنها، والبرج في لغة العرب: البناء الشاهق أو القصر، على حد قوله تعالى: (أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكُكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ)، كما أشار إلى ذلك صاحب "التحرير والتنوير"، رحمه الله، وقيل أصله من: "برج" وهي فارسية معربة تعني الظهور ومنه قيل للمرأة التي تظهر وتبرز زينتها: متبرجة، فمعنى العلو والبروز، الذي يصح تعليق معنى الاهتداء في السير عليه، في كليهما متحقق، فالبناء العالي كالمنارة أو الفنارة برج هداية في الأرض، والنجوم بروج هداية في السماء، ففي ذلك الوصف إشارة لطيفة إلى إحدى حكم خلق النجوم، ثم ثنى بحكمة التزيين، فهي في نفسها مزيَّنة، وللسماء مزيِّنة، فكل ناظر لها مستمتع بجمال صنعها ودقة ترتيبها، فقد اتخذت في السماء هيئات مخصوصة، تدل على كمال قدرة خالقها على ذلك النحو، إذ إتقان المفعول مئنة من إتقان الفعل، على حد قوله تعالى: (صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ): فلو حمل الصنع على المصدر فهو وصف الرب الصانع، جل وعلا، فنسبته إليه: نسبة وصف إلى موصوف، أو: فعل إلى فاعل، ولو حمل على اسم المفعول فهو وصف المخلوق المصنوع فنسبته إليه: نسبة مخلوق إلى خالقه مئنة من دقة خلقه وبديع صنعه فعظم شأن المخلوق مئنة من عظم شأن خالقه، عز وجل، وطلاقة قدرته على الصنع وفق سنن ربانية محكمة هي من حكمته صادرة، فمرد الأمر كما تقرر مرارا: القدرة النافذة والحكمة البالغة للرب الخالق البارئ المصور جل وعلا. فلا خلق بلا قدرة، ولا خلق بلا علم سابق، فدلالة الخلق عليهما دلالة التزام عقلي لا يتصور فيها الانفكاك بين الملزوم ولازمه.

وأثر عن قتادة، رحمه الله، أنه حصر بدلالة استقراء النصوص منافع النجوم في: الهداية، على حد قوله تعالى: (وَعَلَامَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ)، ورجوما للشياطين على حد قوله تعالى: (إِلَّا مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ ثَاقِبٌ)، وزينة للسماء على حد قوله تعالى: (إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ).

وكلها فروع دلالة الإيجاد لها، والعناية بالبشر إذ كونها مما يهتدى به من عناية الرب، جل وعلا، بنا، لئلا نضل في شعاب الأرض، والعناية بنا على حد الترفه برؤية تلك النجوم، فتأخذ العين حظها من المتعة بالنظر البصري، ويأخذ القلب حظه من التأمل والنظر العقلي. وهكذا الشأن في كل نعمة كونية فإن لها:

وجه ترفه يأخذ البدن به حظه، فهي مادة حياته الحيوانية.

ووجه تدبر شرعي يأخذ القلب به حظه من عبودية التأمل، فهي مادة حياته النورانية.

والعناية بنا بالوقاية من كيد الشياطين فهي رواجم لهم حفظا للشرائع والرسالات من التبديل على حد قوله تعالى: (وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّمَاءَ فَوَجَدْنَاهَا مُلِئَتْ حَرَسًا شَدِيدًا وَشُهُبًا).

وبعد تقرير دلالة الإيجاد والعناية في السماء: جاء تقريرهما في الأرض:

وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ:

فأوجدها، وانتصابها لفظا بعامل مقدر من جنس ما تلاها إذ اشتغل عنها بضميرها، فصار التقدير: ومددنا الأرض مددناها ........ ، فحذف العامل المتقدم لدلالة المتأخر عليه إيجازا، ومع ذلك بقيت الدلالة التوكيدية للتكرار ولو مقدرا، وذلك بمقام تقرير قضية الربوبية، وهي الذريعة إلى قضية الألوهية: أليق، فالتذكير بمظاهر القدرة الكونية والتوكيد على ذلك بتقدير المحذوف ومجيء الفاعل على حد الجمع تعظيما، فعظم الموجَد من عظم موجِده، كل أولئك مما يقرر الأمر تقريرا يقع في النفس أبلغ موقع.

وأوجد ما يحفظها من الرواسي الحافظات، وأخرج منها النبات الذي به يقتات البشر والحيوان: (وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ وَمَنْ لَسْتُمْ لَهُ بِرَازِقِينَ).

وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ: فذلك بمنزلة العموم بعد الخصوص، فكل شيء من قدر بالعافية، أو قدر بالابتلاء، أو رزق للأبدان أو رزق للأرواح، أو ولد أو زوجة ........ إلخ خزائنه عند الله، عز وجل، ومقاليده بيده، فإن شاء أجرى الأرزاق فضلا وإن شاء منعها عدلا.

ومن أدلة عنايته بخلقه:

وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ: للسحاب والنبات.

فَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَسْقَيْنَاكُمُوهُ وَمَا أَنْتُمْ لَهُ بِخَازِنِينَ: فذلك من عطف المسبَّب على سببه، بفاء تفيد التعقيب في معرض بيان المنة الربانية على العباد بنزول الماء من المزن، فإن التعجيل بالنعمة آكد في مقام الامتنان بها، فالتأخير مما ينغص على صاحبها.

وَإِنَّا لَنَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَنَحْنُ الْوَارِثُون: فله، عز وجل، الإحياء ابتداء، كما تقدم من الآيات الكونية السابقة، إذ كلها جارية على حد الاختراع وإخراج الحي من الميت، إذ أخرج النبات الحي من الأرض الموات بإنزال الماء عليها، وله الإعادة من باب أولى، فذلك عليه أهون، وبذلك يكون ترتيب الآيات جاريا على نسق عقلي بديع في معرض رد شبه المنكرين لربوبية الإيجاد وربوبية البعث بعد الممات، كما ذكر ذلك صاحب "التحرير والتنوير" رحمه الله.

والله أعلى وأعلم.

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير