تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

والصوم قد علق على الرؤية الظاهرة التي يدركها عموم المكلفين، بخلاف الحساب الفلكي الشمسي الذي لا يدركه إلا آحاد المتخصصين، وهذا أصل مطرد في شرعتنا الحنيفية، فإن الشيء كلما ازدادت الحاجة إليه كان أقرب إلى التناول وأسهل في التعامل، فحاجة العباد إلى الهواء أعظم من حاجتهم إلى الماء، فكان تحصيله أيسر وعلى هذا فقس.

وبعد النص على بعض صور النعم خصوصا:

جاء العموم إمعانا في تقرير المنة الربانية:

وَآَتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ.

وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا: شرط في معرض التذييل إمعانا في تقرير المنة الربانية، فلا يلزم وقوعه بل هو جار مجرى الفرض العقلي فإن تعداد نعم الله، عز وجل، الكونية والشرعية، محال، فلها من العموم والكثرة ما دلت عليه الإضافة في: "نعمة الله"، فإضافة المفرد إلى لفظ الجلالة في هذا الموضع تفيد: العموم من جهة القدر المادي، والتشريف من جهة القدر المعنوي، فلنعم الله، عز وجل، من القدر ما يلائم المنعم بها، جل وعلا، فإن تعدوها فلن تحصوها، فالنفي قد تسلط على المصدر الكامن في الفعل فأفاد عموم النفي، فذلك جار على حد ما تقدم من تقرير عموم النعمة الربانية السابغة، والشرط تذييل بعد تذييل، فخص بذكر أجناس من النعم ثم عم بالجملة الخبرية، ثم أكد العموم بالجملة الشرطية. كما أشار إلى ذلك صاحب "التحرير والتنوير" رحمه الله.

ثم ذيل بما يلائم الاستفهام الإنكاري التوبيخي: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَةَ اللَّهِ كُفْرًا وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ).

فعلة ذلك: إِنَّ الْإِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ: و: "أل" في: "الإنسان": عهدية ذهنية تشير إلى صنف من البشر بعينه بقرينة: "لظلوم كفار".

وصيغ المبالغة في: "ظلوم"، و: "كفار": تقابل عظم النعم وكثرتها، وذلك آكد في التوبيخ، إذ عظم النعمة ذريعة إلى عظم الشكران، فالواجب على المكلف أن يكون شكورا أو شكارا، لا كفورا أو كفارا، فهو مقابل تلك النعم السابغات: ظلوم فعلمه قد فسد بالشرك: أعظم صور الظلم، كفار فعمله قد فسد، إذ الكفر مقابل الشكر، والجوارح محاله على حد قوله تعالى: (اعْمَلُوا آَلَ دَاوُودَ شُكْرًا)، فالمشرك أو الكافر في فساد من القول والعمل عظيم، والتذييل بذلك مئنة من ثبوت ضد الوصفين لمن اتصف بضد علتهما، على ما اطرد من قياس العكس، فإذا كان هذا الصنف المذموم قد قابل النعم: بالظلم والكفران، فإن الصنف الممدوح قد قابلها بالعدل والشكران، فلا يستويان، وذلك جار على ما تقدم، أيضا، من التذييل بالمراد من تقرير دلالتي الإيجاد والعناية إذ هما من النعم الربانية التي يتذرع بها إلى تقرير الرسالات الإلهية: أخبار وأحكاما، على حد التصديق والامتثال.

وإذا كان الإنسان قد جبل على أوصاف يغلب عليها طابع الطين الذي منه نشأ فإن النبوات تأتي بما يهذبها، فتزكي الإنسان بأخبار الوحي، كما تقدم، وتأمل معصية آدم عليه السلام، كيف أذهبت بركة النبوة شؤمها، إذ سارع إلى التوبة فتلقى: (مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ)، فعصى بمقتضى الأمر الكوني ونجا بمقتضى الأمر الشرعي، فكان على طريقة أهل الحق في القدر إذ لم يحتج به على إبطال الشرع، وإنما رده بقضاء الإنابة والتوبة، وذلك حال المسدد ممن فقه نكتة الابتلاء بالمخالفة والمنة بالرجوع والموافقة. فما عصى إلا بقضاء، وما تاب إلا بقضاء، فرد القضاء بالقضاء.

والله أعلى وأعلم.

ـ[مهاجر]ــــــــ[07 - 09 - 2009, 08:13 ص]ـ

ومن ذلك أيضا:

استجابة دعاء الأنبياء عليهم السلام على حد:

قوله تعالى: (فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ).

وقوله تعالى: (فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِنْ ضُرٍّ وَآَتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ).

وقوله تعالى: (فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ).

وقوله تعالى: (فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَى وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ).

فإنهم أحق الناس بالعناية، فلذلك جاءت الإجابة مصدرة بفاء التعقيب، فسرعة الاستجابة فرع عن يقين السائل، فكلما كان يقينه أعظم، كانت إجابته أسرع، فإن تأخرت، فذلك في حق الرسل عليهم السلام وأتباعهم: رفعة للدرجات، فقد مكث يوسف الصديق، عليه السلام، في السجن بضع سنين، كان فيها على رسم الموحدين رضا وصبرا، فاستحق التمكين بعد الابتلاء، على حد قوله في معرض النصح والإرشاد: (إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ)، فالعبرة بعموم لفظه لا بخصوص سببه، فذلك جار في حق كل متق صابر، فباشر أسباب التقوى عموما، وباشر سبب الصبر خصوصا إذ هو الأليق بمقام الابتلاء، كما أن الشكر هو الأليق بمقام النعماء.

ولكل من جاء بعدهم من تلك العناية بإجابة الدعاء نصيب، وقد عده بعض أهل العلم من دلالة الحس على وجود الرب، جل وعلا، فإن كل داع استجيب له يجد في نفسه أثر ذلك: يقينا جازما بوجود قوة عليا سمعت نداءه، واستجابت دعاءه بإجراء الأسباب المفضية إلى ذلك، وكم دافع الدعاء أقدارا معلقة، فلا يردها إلا هو، بخلاف الأقدار المبرمة فإنها لا تبدل.

والشاهد أن ذلك: دليل عناية بالعباد، يدخل فيه حتى الكافر حال الظلم أو الاضطرار على حد قوله تعالى: (فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ)، وهو دليل حس على قدرة الرب، جل وعلا، فكمال وصفه إذ سمع، وتمام عنايته إذ أجاب ذريعة إلى توحيده تألها فرعا عن كونه الرب السامع المجيب تفضلا وتكرما.

والله أعلى وأعلم.

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير