ـ[مهاجر]ــــــــ[08 - 09 - 2009, 07:48 ص]ـ
ومن سورة النحل: سورة النعم الربانية في معرض تقرير مسألة الألوهية:
ومن صدرها تحديدا:
(يُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ أَنْ أَنْذِرُوا أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاتَّقُونِ (2) خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ تَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (3) خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ (4) وَالْأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ (5) وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ (6) وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بَالِغِيهِ إِلَّا بِشِقِّ الْأَنْفُسِ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ (7) وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لَا تَعْلَمُونَ)
خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ: على ما تقدم من التقييد بالحال، فيفيد انتفاء الوصف المضاد فما خُلقتا عبثا، وما ترك المكلفون سدى، بل خلقت السماوات والأرض إظهارا لمعاني الحكمة والقدرة في معرض الاستدلال على الغاية العظمى من ورود التكليف الشرعي، فإن من له الإيجاد من العدم، هو الذي يستحق الإفراد بالطلب، فقدرته أعظم قدرة، وحكمته أبلغ حكمة، فسؤال من هذا حاله لا ينفك عن إجابة بالقدرة النافذة، أو تأخير أو رد بالحكمة الباهرة إذ قد يطلب العبد عين هلاكه وهو لا يشعر لنقص علمه وتدبيره، فيدبر الرب جل وعلا له من الخير ما يظنه شرا، ومن النجاة ما يظنه هلاكا، وكم أعطي بشر ما سألوا من دنياهم فكان ذلك سببا في فساد دينهم
ثم ذيل بالتنزيه: تَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ: فرعا عن كمال ربوبيته، فتعالى من وصفه خلق ذلك العالم على ذلك النحو الباهر عن ندية آلهة لا تملك لنفسها فضلا عن غيرها ضرا ولا نفعا، فليس لها من الملك نصيب: في الأعيان مُلكا أو الأحوال مِلكا، فغايتها أن تكون أسبابا وجنودا لا تستقل بالتأثير بل هي بإذن مسببها وملكها جارية ولأمره الكوني خاضعة كسائر الموجودات، على حد قوله تعالى: (وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ (26) لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ)
ثم أعيد العامل توكيدا في معرض بيان دلالة الإيجاد:
فـ: خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ: نكرت تحقيرا، فجنس الإنسان من جنس تلك النطفة المذرة التي يستنكف المرء علوقها بجسده أو ثوبه، ومع ذلك: (هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ)، ودلالة: "إذا" الفجائية مئنة من الإنكار إذ قد خرج الإنسان عما يليق بأصله ووصفه من الضعف والفقر الملازم لذاته، فجاء خصيما معاندا لا منقادا مستسلما لأمر من خلقه. ولو أحسن لاستعمل قدرته على البيان والجدال في تقرير معاني الربوبية والألوهية الحقة، فذلك من شكر نعمة اللسان الناطق، كما أشار إلى ذلك أبو السعود، رحمه الله، فإن للنعمة الكونية ما يقابلها من الوظيفة الشرعية على حد الشكر والعرفان، وإلا كان صاحبها من أهل الجحود والكفران، وذلك جار على ما تقدم مرارا، من أن دلالة الإيجاد إنما أريد بيانها تذرعا بها إلى تقرير مسألة الألوهية، فهي الشاهد العدل على وجوب إفراد الرب، جل وعلا، بسائر أجناس التعبد الظاهر والباطن.
وَالْأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ: فذلك سياق جامع بين دلالتي: الإيجاد والعناية، وفيه من التوكيد: تكرار العامل مقدرا لاشتغال العامل المتأخر بضمير المنصوب المتقدم، والتوكيد بسياق الامتنان أليق.
واللام في: "لكم" على حد اللام في: (هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا) ففيها من معنى الإباحة والاختصاص ما يقرر معنى العناية.
ثم جاء الإطناب في بيان أوجه تلك العناية على ما تقدم من التفصيل في تقرير المنة الربانية فـ:
فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ: فتلك منفعة البدن المباشرة بها. وقد خص بذكر منفعة الاستدفاء بأشعارها وأوبارها، ثم عم بذكر جملة المنافع ثم خص ثانية بذكر الأكل إذ هو من أعظم ما ينتفع بالأنعام فيه، فيكون في السياق تدرج من منفعة دنيا إلى منفعة عليا، كما أشار إلى ذلك أبو السعود رحمه الله، وذلك آكد في استحضار معاني العناية الربانية بالنوع الإنساني.
وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ: فتلك منفعة النفس بها إذ قد جبلت على حب التزين والتجمل ومن صوره التجمل في المراكب.
ومن جملة منافعها أنها:
تَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بَالِغِيهِ إِلَّا بِشِقِّ الْأَنْفُسِ: كناية عن عظم الجهد المبذول في نقل المتاع لو لم تكن تلك الأنعام مسخرة، فكأن النفوس تصدع صدعا، والمراد ذهاب شطر القوى لا شطر الذوات فتكون النسبة إلى النفس من المجاز العقلي، ثم ذيل على حد الفصل لشبه كمال الاتصال، فعلة ما تقدم:
إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ: فذلك التذييل أليق بمقام الامتنان إذ يناسبه إيراد صفات جمال الرب، جل وعلا، من الرأفة والرحمة بعباده.
ثم عطف في مقام ما اطرد من بيان دلالة العناية:
وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لَا تَعْلَمُونَ:
والمضارع: "يخلق" مئنة من التجدد والاستمرار، إذ ألهم الله، عز وجل، الإنسان بعد ذلك من صناعة أنواع المراكب ما هو مشاهد، وقد يجري ذلك مجرى استحضار صورة منقضية لو قصد به نعيم الجنة المعد أزلا، وعلى كلا التقديرين فالمنة الربانية حاصلة والنعمة الكونية والشرعية سابغة، فلله الحمد والشكر على حد الاستغراق لأجناس المحامد على ما أولانا به من نعمه الكونية والشرعية العظيمات.
والله أعلى وأعلم.
¥