وذلك التذييل جار على ما تقدم من التنبيه على المراد من دلالة الاختراع والعناية، فهما من الربوبية التي يحصل بالتفكر في آياتها: التزام أمر الألوهية فضلا عن كون التفكر في ذاته: عبادة مرادة لذاتها، فهي مرادة لذاتها من جهة كونها عبادة، والعبادة غاية التكليف، وهي مرادة لغيرها من جهة كونها ذريعة إلى تمام الانقياد للوحي: أخبارا وأحكاما، فشأنها شأن الوضوء: فهو بالنظر إلى ماهيته: عبادة مرادة لذاتها، وبالنظر إلى كونه مما تستباح به العبادة: ذريعة مرادة لغيرها.
وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ: فذلك من تسخير الأجرام ليحصل بها تمام الانتفاع بتوالي الأعراض عليها من ليل ونهار.
وَالنُّجُومُ مُسَخَّرَاتٌ بِأَمْرِهِ: فذلك، أيضا، من العموم بعد الخصوص، فالشمس والقمر مسخران على حد الخصوص لعظم انتفاع بني آدم بهما، والنجوم مسخرات على حد العموم، فكلٌ بأمره الكوني النافذ جار، وفيه إشارة لطيفة إلى كون القرآن غير مخلوق، فهو من الأمر الشرعي قسيم الأمر الكوني: الذي به سخرت المخلوقات، ولا تسخر المخلوقات بمخلوق بداهة، بل تسخر بأمر غير مخلوق، فإذا ثبت أن الأمر الكوني غير مخلوق فقسيمه من الأمر الشرعي غير مخلوق إذ كلاهما من أمر الرب، جل وعلا، الذي يقوم بذاته القدسية: قيام الوصف بموصوفه، فهو فرع عنه، فإذا كانت ذاته القدسية غير مخلوقة فما يقوم بها من أوصاف الكمال الذاتي أو الفعلي غير مخلوق بداهة، وهذا أصل جليل في باب الصفات الإلهية. ثم ذيل على ما اطرد من تقرير الغاية من بيان صور العناية:
إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ، فهي على حد ما تقدم من قوله تعالى: (إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ).
ثم جاء ذكر صور العناية في: البر والبحر، من باب التنويع في التقاسيم فذكر النعم الأرضية إجمالا: وَمَا ذَرَأَ لَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ، ثم ذيل بالغاية الشرعية: إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ.
ثم أطنب في بيان النعم البحرية إذ لم يتقدم لها ذكر فـ: هُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْمًا طَرِيًّا: وليس له مفهوم فالطيب من طري البحر أو يابسه حلال، على ما تقرر في الأصول من كون الوصف في معرض الامتنان غير معتبر المفهوم، إذ التخصيص به مما يتنافى مع معنى المنة الذي يناسبه العموم، فتخصيص المنة تنغيص، والتنغيص مما يقدح في معنى المنة، كما تقدم، وإليه أشار صاحب "أضواء البيان"، رحمه الله، بقوله:
"وقد تقرر في الأصول: أن من موانع اعتبار مفهوم المخالفة كون النص مسوقاً للامتنان. فإنه إنما قيد بالطري لأنه أحسن من غيره، فالامتنان به أتم". اهـ
ويستثنى من ذلك ما إذا كان التخصيص حفظا لحق الله، عز وجل، فيجوز عندئذ تخصيصها، إذ حق الله، عز وجل، مقدم على كل حق، ولذلك صح تخصيص عموم المنة في جعل الأرض مسجدا وطهورا، بالنهي عن الصلاة في المقبرة والحمام حفظا لحق الله، عز وجل، لما في الصلاة فيهما من التعدي على حقه تبارك وتعالى.
وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا: فذلك وجه آخر من أوجه العناية، فطعام يحفظ البدن من التلف، وحلية يتزين بها.
وَتَرَى الْفُلْكَ مَوَاخِرَ فِيهِ: فذلك من باب استيفاء أوجه الانتفاع بالمركب، إذ تقدم ذكر المركب الأرضي ثم ثنى بالمركب البحري، وأما المركب الجوي الحادث بعد ذلك بقرون فهو داخل في حد قوله تعالى: (وَيَخْلُقُ مَا لَا تَعْلَمُونَ).
وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ: فذلك عموم بعد خصوص النعم المذكورات، أو هو فرد رابع، إذ البحر مما تنقل فيه التجارات من ثغر إلى ثغر، فتكون منفعة الاتجار مكملة لما تقدم من أجناس الانتفاع كما اختار ذلك صاحب: "أضواء البيان" رحمه الله.
وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ: على ما اطرد من التذييل بالمعلول المراد لذاته، فعلة ما تقدم من صور العناية: شكر المنعم، جل وعلا، فذلك من تمام الهداية.
¥