وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَأَنْهَارًا وَسُبُلًا: فذلك من تمام الصنعة الربانية الأرضية فألقى الجبال أوتادا وأجرى الأنهار، وشق السبل ليهتدي الخلق في الأسفار، وقد تحمل الهداية في الآية على ما اطرد من التذييل بالغاية الشرعية بعد تقرير المنة الربانية فيكون ذلك من باب ما اصطلح البلاغيون على تسميته بـ: "التوجيه"، كما أشار إلى ذلك صاحب: "التحرير والتنوير"، رحمه الله، إذ يحتمل السياق معنيين متباينين على حد ما يشبه الاشتراك، وكلاهما مما يصح حمل السياق عليه، فيكون الأولى حمله على كليهما تعميما وإثراء للمعنى، فذلك الأصل في نصوص الوحي المنزل. فهي موجزة المباني واسعة المعاني.
ثم ذكر ما يتعلق بالسبل مما يهتدى به فيها فذلك من تمام عنايته بالسالكين إذ يسر السبيل ويسر الدليل:
وَعَلَامَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ.
ثم جاء الاستفهام الإنكاري الإبطالي: أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لَا يَخْلُقُ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ:
في معرض الحجاج العقلي بإبطال التسوية بين المتباينين: الخالق، عز وجل، الذي له من وصف الربوبية خلقا وبرءا وتصوير، والمخلوق الذي ليس له من ذلك شيء، فكيف صح في الأذهان التسوية بينهما باتخاذ كليهما معبودا، فالله، تبارك وتعالى، هو المعبود بحق، وما سواه هو عين الباطل.
وفي معرض التحدي إمعانا في تقرير المنة الربانية:
وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا: وتقدم أن الإضافة للتعميم والتشريف، وذيل بما يدل على عجز العباد عن استيفاء شكر المنعم، جل وعلا، فهو الغفور الرحيم الذي يتجاوز عن تقصير العباد في ذلك، فلن يطيقوه وإن التزموا من صنوف العبادات ما التزموا.
فـ: إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ مقابل ما تقدم في قوله تعالى في سورة إبراهيم: (لظلوم كفار)، كما أشار إلى ذلك صاحب التحرير والتنوير، رحمه الله، بقوله: "ثم كان من اللطائف أن قوبل الوصفان اللذان في آية سورة إبراهيم: (لظلوم كفار) بوصفين هنا: (لغفور رحيم) إشارة إلى أن تلك النّعم كانت سبباً لظلم الإنسان وكفره وهي سبب لغفران الله ورحمته. والأمر في ذلك منوط بعمل الإنسان": فهي في حق من انتفع بها فجعلها سببا في إقامة الشرع: نعمة ولا يكون ذلك إلا لمن أوتي من العلم والسداد ما يرى به الحق حقا فذلك التصور العلمي الأول، فيتبعه فذلك الحكم العملي التالي على ما اطرد من تلازم العلم والعمل، وفي حق من لم ينتفع بها: نقمة إذ لم يؤت من العلم والسداد ما يجعله أهلا لذلك، أو أوتي علما، ولكنه لم يؤت توفيقا، فكان علمه حجة عليه.
والله أعلى وأعلم.
ـ[مهاجر]ــــــــ[11 - 09 - 2009, 07:59 ص]ـ
ومن قوله تعالى:
وَلَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَهُ الدِّينُ وَاصِبًا أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَتَّقُونَ (52) وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ (53) ثُمَّ إِذَا كَشَفَ الضُّرَّ عَنْكُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْكُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ.
وَلَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ: على حد الملكية المطلقة، ومن لوازمها بداهة: إيجاد المملوك، فليس ملك الرب، جل وعلا، كملك المربوب، فملكه: ملك عام، كما أن علمه: علم محيط، فإنه يعلم من دقائق المصنوع: عينا وحالا، ويقدر على خلقه وإيجاده من العدم، فله من العلم المحيط والقدرة النافذة، ما يجعل إيجاده: أكمل إيجاد، فلا تجارب فيه على حد بلوغ الكمال شيئا فشيئا كما هو حال إيجاد المربوب، وما ذلك إلا لنقص في علمه يضطره إلى أن يجرب مرارا، فيرى من عيوب صنعته ما يتلافاه في الأجيال القادمة من السيارات والحاسبات ....... إلخ، فيترقى في معاريج الكشف العلمي لأسباب العلم الكوني بقدر ما أذن به الله، عز وجل، على حد ما تقدم من قوله تعالى: (وَيَخْلُقُ مَا لَا تَعْلَمُونَ). فذلك فرقان بين ملكه وملك عبده: فملكه مطلق برسم الأمر الكوني النافذ، وملك عبده: مقيد بقيد الأمر الشرعي الحاكم إن كان مؤمنا والأمر الكوني فلن يملك إلا ما قدر الله، عز وجل، له ملكه، وإن بذل من الأسباب ما بذل.
¥