فذلك من دلالة الإيجاد، إذ أجرى الليل والنهار وفق سنن كونية مطردة هي مئنة من طلاقة قدرته الكونية، ثم ذيل بأوصاف الكمال على حد التوكيد بضمائر الفصل وتكرار المؤكد وتعريف أجزاء الجمل.
ثم جاء الاستفهام في معرض الحث على تأمل آيات الكون الآفاقية: فهي ذريعة إلى تقرير دلالة الإيجاد بإحياء الأرض الموات، وذلك من جنس إحياء الميت الجامد، فيدل بإشارته على قدرته جل وعلا على بعث الأجساد ونشرها، جاء المضارع: "فتصبح": استحضارا لتلك الصورة إمعانا في الحث على تأملها فهي من دلائل الربوبية الخالقة، فبث مادة الحياة في بذرة ميتة من أخص أوصاف الربوبية، إذ ليس الخلق على جهة الإبداع والإيجاد من العدم لغير الرب جل وعلا، ولا يكون ذلك إلا عن علم محيط، قد سبق من الأزل، ولذلك ذيل بأوصاف العلم الدقيق: (إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ)، فيعلم ما خفي وما دق من أسرار المخلوقات علما أزليا أولا جاء الخلق التالي في عالم الشهادة على وفقه.
ثم جاء التذييل بأوصاف:
لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ: فيخلق بحكمة باهرة، ولكنه لا يفتقر إلى تلك المخلوقات الكائنة بل هي له على حد التملك والخضوع لأمره الكوني، وهو عنها غني، قد اتصف بصفات الكمال الموجبة للحمد على حد المبالغة.
ثم ثنى بذكر دلائل من العناية الإلهية إمعانا في نقرير منته على عباده، وكمال ربوبيته المستلزم كمال التأله له:
أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ وَالْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَيُمْسِكُ السَّمَاءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلَّا بِإِذْنِهِ: فنعمه قد عمت في البر والبحر والجو.
إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ (65)
ثم ذكر من دلائل الإيجاد:
وَهُوَ الَّذِي أَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ إِنَّ الْإِنْسَانَ لَكَفُورٌ:
فنص على الإحياء الأول من العدم ثم ثنى بذكر الضد على ما تقرر من عموم الربوبية التي بها تقع الأضداد على وجه يظهر به كمال الرب، جل وعلا، من قدرة على خلقها وحكمة في إجرائها.
ثم نص على الإحياء الثاني، فذكر الإحياء الأول بمنزلة التوطئة له من باب ما تكرر مرارا من قياس الأولى فإن من خلق أولا قادر على إعادة الخلق ثانيا من باب أولى.
والله أعلى وأعلم.
ـ[مهاجر]ــــــــ[26 - 09 - 2009, 04:12 م]ـ
ومن قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لَا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ)
فالنداء مئنة من غفلة المخاطبين، وذلك أمر كائن بقدر الرب، جل وعلا، الكوني فـ: (مَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ)، ولو آمنوا فـ: (مَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ)، فلزم التنبيه على بطلان تلك الآلهة التي اتخذت معه على حد التشريك، إذ ليس لها ما له، جل وعلا، من ربوبية الإيجاد، ولو لكائن صغير من أحقر الكائنات جرما، وهو الذباب، فإنهم مهما أوتوا من طرائق البحث العلمي الحديث فلن يخلقوا مادة حية، وإن علموا تركيبها الكيميائي على حد الدقة المتناهية، فغايتهم أن يستنسخوا منها صورا شوهاء، بحقن الخلايا الجسدية بأنوية مخصبة، الحياة فيها كائنة سابقة بكلمات الرب، جل وعلا، التكوينية، وإن أنكر ذلك من أنكر من دعاة الإلحاد الذين نزعوا ذلك الوصف الرباني من الباري، عز وجل، الذي قامت الدلائل على وحدانية ربوبيته العامة: إيجادا بنفخ الروح وإعدادا لآلات البدن للانتفاع بقوى الغذاء النافع وإمدادا بأسباب الصلاح والبقاء، وردوه في تحكم عجيب إلى الطبيعة الصماء البكماء التي لا تعقل، فالبشر المخلوق أكمل منها بما ركب فيه من آلة العقل، ولا تملك دفع أذى الإنسان عنها، فهو، أيضا، أكمل منها من هذا الوجه إذ له نوع قدرة يدفع بها عن نفسه أذى غيره، فكيف تكون هي الصانعة لهذا الخلق العجيب ولا علم لها ولا حكمة، بل ولا حياة لها، بل هي كسائر الأسباب الكونية، تجري وفق مشيئة الرب، جل
¥