وعلا، فتخضع لكلماته التكوينيات النافذات على حد القهر، فإن شاء إيجاد شيء منها وجد، وإن شاء إعدامه عدم.
فقوله: لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا: جار على حد التأبيد، وإن لم تكن: "لن" نصا فيه، إذ القرينة بذلك شاهدة، فاختصاص ذلك الوصف بالرب، جل وعلا، إذ هو من أخص أوصاف ربوبيته، كما تقدم، مما يقطع بتأبيد نفيه عمن سواه، إذ لو شاركه غيره ذلك الوصف لاستحق وصف الربوبية على حد المشاركة أو المنازعة له، جل وعلا، وذلك مما يشهد النقل والعقل والحس والفطرة ببطلانه، بل وثبوت نقيضه من تمام انفراده، تبارك وتعالى، بربوبية كونه بمقتضى قدره الكوني النافذ.
ونكر "الذباب": تحقيرا إمعانا في التحدي فلا قدرة لهم على خلق كائن حقير فكيف بهذا الكون العظيم، فإذا ثبت عجز آلهتهم عن ذلك انتفت ألوهيتهم إذ قد عزلوا عن منصب الربوبية، فليس لهم من وصفها شيء ولو كان خلق ذباب حقير!.
وقوله: وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ: من باب المبالغة في معرض التحدي إمعانا في بيان عجزهم عن ذلك المنصب الرباني: منصب الإيجاد من العدم، فـ: "لو": وصلية، على حد قوله تعالى: (وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ)، والشرك منتف عنهم بداهة، وإنما سيق مساق قياس الأولى، فإذا كان الشرك محبطا لعمل الأنبياء، عليهم السلام، لو تصور وقوعه منهم فهو محبط لعمل غيرهم من باب أولى.
وإمعانا في بيان عجزهم جاء التحدي بما هو أدنى من ذلك من باب التنزل مع الخصم إظهارا لعجزه عن الأدنى فضلا عن عجزه عن الأعلى:
وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لَا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ: فزيادة المبنى في: "يَسْتَنْقِذُوهُ": مئنة من كمال عجزهم وإن حرصوا على بذل الأسباب على حد الطلب الذي دلت عليه حروف الزيادة الدالة عليه.
ثم ذيل بالإطناب في بيان عجزهم:
ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ: فضعف الداعي والمدعو: فالداعي ضعيف جبلة، والمدعو ضعيف وإن ادعيت له من أوصاف الكمال ما ادعي فحاله شاهد ببطلان الدعوى بل بثبوت نقيضها له من العجز على حد قوله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُوا لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (194) أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ آَذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا قُلِ ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ كِيدُونِ فَلَا تُنْظِرُونِ).
والله أعلى وأعلم.
ـ[مهاجر]ــــــــ[27 - 09 - 2009, 05:55 م]ـ
ومن قوله تعالى: (قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلَا يُطْعَمُ)، فقوله تعالى: (فاطر السماوات والأرض): دليل الاختراع والإيجاد من عدم والإبداع على غير مثال سابق، على حد أثر ابن عباس رضي الله عنهما: "كنت لا أدري ما: "فاطر السماوات والأرض"، حتى أتاني أعرابيّان يختصمان في بئر، فقال أحدهما لصاحبه:"أنا فَطَرتها"، يقول: أنا ابتدأتها".
فهو، جل وعلا، بديع السماوات والأرض، وتلك من أخص أوصاف ربوبيته، عز وجل، وإن لم تكن أخصها، فتفرده بالخلق من العدم والإبداع على غير مثال سابق من أخص أوصاف ربوبيته، وتفرده بالتدبير الكوني لخلقه من أخص أوصاف ربوبيته، فلم يترك الخلق هملا، وإنما قدر لهم ما يصلح أديانهم وأبدانهم، كما تقدم، وتفرده بمعاني الكمال المطلق من الغنى والقدرة النافذة والعلم المحيط ......... إلخ من أخص أوصاف ربوبيته.
يقول ابن تيمية رحمه الله:
"ومن أخص أوصاف الرب القدرة على الخلق والاختراع فليس ذلك لغيره أصلا حتى إن كثيرا من النظار المثبتين للقدر كالأشعري وغيره جعلوا هذا أخص وصف للرب تعالى "
"الرد على البكري"، ص126، 127.
¥