النطفة ويحدث جوهر العلقة ......... إلخ حتى يكتمل نمو الجنين كما جاء في الآية على حد الإطناب في معرض بيان دلالة الإيجاد في الأنفس فالنظر في أطوار نمو الجنين مما يؤكد موافقة العلم التجريبي للعلم الإلهي، وذلك ما لا تجده في بقية الملل التي صار فيها الدين والعلم على وصف المحادة، فكلاهما يضطهد الآخر إن كانت له عليه ولاية، فالكنيسة أحرقت علماء أوروبا في القرون الوسطى لما التمسوا بعقولهم معرفة سنن الكون، فذلك مما تدرك العقول حقائقه بخلاف حقائق الغيب التي لا تدرك منه إلا ما أوقفتها عليه الرسالات من المعاني دون الكيفيات، فقمعت كل فكر حر يثبت خطأ الأناجيل التي أقحم كاتبوها الوحي في تحديد حقائق الكون على حد الجزم، فجاء العلم التجريبي لها مكذبا، إذ ليست وحيا منزلا وإن اعتقدت الكنيسة ذلك، ولما استولى العلم على مقاليد الولاية في عصر النهضة أوائل القرن الماضي، أخذ بثأره من الدين فقمعه وحجر عليه فلم يعد له إلا مواعظ يوم الأحد التي لا تحفظ دينا ولا تسوس دنيا فهي مجرد كلمات وجدانية باردة لا أثر لها في الحياة العملية.
وأما الوحي والعلم في الملة الخاتمة فهما من التعاضد بمكان في معرض تقرير السنن الربانية المطردة تذرعا بها إلى إفراد الرب، جل وعلا، بالتأله، بمقتضى سننه الشرعية المنزلة.
ثم جاء التذييل بـ:
فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ: فهو من الخبر الذي أريد به إنشاء الثناء على الرب جل وعلا: أحسن الخالقين: إن حمل الخلق على معنى التقدير، فلا يقدر الأعيان والأفعال على هيئاتها وأقدارها التي تظهر بها حكمة مقدرها البالغة إلا الله، عز وجل، وأحسن الخالقين: إن حمل الخلق على التكوين، فإيجاده، عز وجل، للكائنات، إنما هو على حد الإبداع من العدم بلا سابق مثال بمقتضى كلمته التكوينية النافذة، بخلاف خلق غيره فغايته أن يكون تصويرا للهيئة الظاهرة دون سريان للحياة فيها، فذلك مما استأثر الباري، عز وجل، به، أو تحويلا للمادة من هيئة إلى هيئة، فيصدق على من جعل من الخشب بابا أنه صنعه أو خلقه، وشتان خلق الرب وخلق العبد!.
ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيِّتُونَ: فذلك مما قهر به الرب، جل وعلا، عباده، إظهارا لما استأثر به من معاني الحياة الكاملة في مقابل ما وهبهم من معاني الحياة الناقصة التي يعتريها من العوارض ما يعتريها، فضلا عن صيرورتها إلى الزوال، وإن طال الأمد فتلك سنة كونية قد كتبها الله، عز وجل، على الخلائق، إلا من شاء في دار الخلد التي لا يفنى أهلها، وحياتهم مع ذلك لحياته تابعة، فهو المحيي لهم بإحيائه، المبقي لهم بإبقائه.
ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُبْعَثُونَ: فرعا عن إيجادكم الأول على حد ما تقرر مرارا من قياس الأولى، فمن أوجد ابتداء من العدم على حد الإبداع على غير مثال سابق قادر على الإعادة ثانيا من باب أولى.
ثم انتقلت الآيات إلى نوع آخر من دلالة الإيجاد وهي: الآيات الآفاقية:
وَلَقَدْ خَلَقْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرَائِقَ وَمَا كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ غَافِلِينَ: فبعد الآيات النفسانية في أطوار خلق الجنين دعاهم إلى النظر في الآيات الآفاقية في خلق السماوات.
وبعد دلالة الإيجاد جاءت دلالة العناية:
وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّا عَلَى ذَهَابٍ بِهِ لَقَادِرُونَ (18) فَأَنْشَأْنَا لَكُمْ بِهِ جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ لَكُمْ فِيهَا فَوَاكِهُ كَثِيرَةٌ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ (19) وَشَجَرَةً تَخْرُجُ مِنْ طُورِ سَيْنَاءَ تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ وَصِبْغٍ لِلْآَكِلِينَ (20) وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهَا وَلَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ كَثِيرَةٌ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ (21) وَعَلَيْهَا وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ:
فعناية بتيسير الماء: سبب الحياة الرئيس، وتيسير غذاء الأبدان على حد التنوع النباتي والحيواني، وتيسير المراكب برا وبحرا.
فالحمد لله الموجد المنعم الذي خلق فأحسن الصور والذي رزق من الطيبات ما به صلاح الأبدان وأنزل من الآيات ما به صلاح الأرواح.
والله أعلى وأعلم.
¥