ـ[مهاجر]ــــــــ[30 - 09 - 2009, 05:32 م]ـ
ومن قوله تعالى:
(وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آَيَةً وَآَوَيْنَاهُمَا إِلَى رَبْوَةٍ ذَاتِ قَرَارٍ وَمَعِينٍ (50) يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ):
فتلك من دلالة الإيجاد المعجز، فتنكير الآية: تعظيما فهي آية كونية عظيمة إذ خلق المسيح عليه السلام من البتول عليها السلام بلا أب على حد ما تقدم مرارا من طلاقة القدرة الإلهية على فعل كل الممكنات، فالتنويع في الخلق مئنة من اتصافه، تبارك وتعالى، بكمال وصف الخلق، فله الخلق تقديرا في الأزل، وله الخلق إيجادا في عالم الشهادة، فخلق من أنواع الكائنات: الدقيق فلا يكاد يرى، والجليل فلا يكاد يحد بالبصر، وخلق منها: الجماد والحي، وخلق من الحي: النبات والحساس المتحرك من أجناس الحيوان، وخلق من الحيوان ما يكل الذهن عن عد أنواعه ودرك أوصافه، وخلق من الحيوان: الأعجمي والناطق، ونوع في ألسنة الناطق، فذلك من دلالة ربوبيته إذ يدرك كل المسموعات بسمعه المحيط فلا تختلط عليه الألسنة ولا تتداخل عليه الأصوات، وخلق الإنسان من ذكر وأنثى، واختص آدم، عليه السلام، بالخلق من غير ذكر وأنثى، واختص حواء، عليها السلام، بالخلق من ذكر بلا أنثى، واختص المسيح عليه السلام بالخلق من أنثى بلا ذكر، فذلك من البراهين الساطعة على كمال صفاته الفاعلة، فعنها صدر ذلك الخلق العظيم صدور المعلول من علته على حد التعقيب: (وَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ)، فإذا أراد شيئا فهو كائن عقيب صدور الكلمة التكوينية النافذة منه تبارك وتعالى. فبالكلمة الكونية تكون الكائنات وبالكلمة الشرعية ينزل الملك بوحي الرسالات.
ثم جاءت العناية الخاصة بهما إذ لهما من علو المكانة على حد الاصطفاء ما ليس لغيرهما من آحاد البشر:
وَآَوَيْنَاهُمَا إِلَى رَبْوَةٍ ذَاتِ قَرَارٍ وَمَعِينٍ: فأضيفت الربوة، كما ذكر صاحب "التحرير والتنوير" رحمه الله، إلى المعنى الحاصل فيها من القرار لما فيها من الظل والثمر والماء المعين الذي حذف موصوفه لدلالة الوصف عليه، على حد قوله تعالى: (إِنَّا لَمَّا طَغَى الْمَاءُ حَمَلْنَاكُمْ فِي الْجَارِيَةِ)، أي: في السفينة الجارية.
وبعد العناية الخاصة جاءت العناية العامة في معرض الامتنان على الرسل عليهم السلام وأممهم لهم تبع في ذلك، إذ الأصل في المنن الكونية والتكليفات الشرعية: العموم إلا ما اختص به بعض المكلفين، فـ:
يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ: على حد التعظيم إذ وصف الرسالة لا يتصور فيه النداء على حد التحقير أو التوبيخ لغفلة المخاطب:
كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ: فتلك المنة الربانية في معرض العناية بالأبدان بتناول ما هيأ الله، عز وجل، من الأسباب الكونية من: الطيبات التي تنمو بها الأبدان على حد الزكاء والانتفاع، وفيها إشارة بالمفهوم إلى تحريم تناول الخبائث التي أودع الله، عز وجل، فيها قوى الإفساد، فبها تفسد الأبدان، وتقصد ذلك مما جاء الوحي بتحريمه: (وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ)، بل قد عد حفظ البدن من التلف الضرورة الثانية من ضرورات الشرعة الخاتمة.
وَاعْمَلُوا صَالِحًا: فذلك التكليف الشرعي في مقابل ما تقدم من العطاء الكوني، فعطفه عليه من باب عطف اللازم على ملزومه، ولا يخلو من وجه منة، إذ الطيبات غذاء الأبدان والصالحات غذاء الأرواح، فالتكليف وإن كان فيه نوع مشقة إلا أنه عند التأمل: سبب في حفظ القلوب من الآفات العلمية والعملية، فلا تضعف قواه العلمية شبهة ولا تضعف قواه العملية شهوة.
ثم ذيل بوصف العلم: إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ: على حد التعليل لما تقدم من الأمر بالعمل الصالح، إذ إحاطته جل وعلا بأعمال عباده علما مما يحفز الهمم على التوكل عليه على حد الاستعانة، وإتقان العمل على حد العبادة فذلك مقام: إياك نعبد وإياك نستعين، فإياك نعبد بعمل الجوارح الظاهر وإياك نستعين بالتوكل عليك: فذلك من عمل القلب الباطن.
والله أعلى وأعلم.
ـ[مهاجر]ــــــــ[01 - 10 - 2009, 06:16 م]ـ
ومن قوله تعالى:
¥