فهو، جل وعلا، على حد القصر بتعريف الجزأين العزيز الذي يهب من يشاء فضلا، ومن ضمن هباته بل أعظم هباته: هبة النبوة فلا تكتسب بنظر أو رياضة، ويمنع من يشاء عدلا، الحكيم: الذي يضع الشيء في موضعه، فلا يضع الهداية في غير محلها ولا يصطفي لنبوته من ليس لها بأهل.
ثم جاء الإطناب بذكر صور من صور دلالة الإيجاد الكونية على حد ما تقدم من ذكر معجزات الكليم عليه السلام:
وَأَلْقِ عَصَاكَ فَلَمَّا رَآَهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ وَلَّى مُدْبِرًا وَلَمْ يُعَقِّبْ يَا مُوسَى لَا تَخَفْ إِنِّي لَا يَخَافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ:
فالحال: "مدبرا" مؤكدة لعاملها: "ولى"، مبينة لهيئته، وعطف: "وَلَمْ يُعَقِّبْ" مئنة من عظم خوف الكليم عليه السلام من تلك الآية الكونية الباهرة، فجاء النهي إيناسا له: "لَا تَخَفْ إِنِّي لَا يَخَافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ": فخلعت عليه خلعة النبوة، وأكرم بها من خلعة.
ثم جاءت آية اليد كما تقدم ذلك أيضا:
وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ فِي تِسْعِ آَيَاتٍ إِلَى فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ:
فتلك تسع آيات كونية على حد الإعجاز في معرض تأييد الرسول البشري، هي مئنة من كمال ربوبية الرب العلي، جل وعلا، ففيها من دلالة الإيجاد ما يخرم السنة الكونية المطردة على وجه لا يقع إلا للأنبياء، عليهم السلام، في معرض التحدي، مئنةً من دلالة العناية الخاصة بهم بإجرائها على أيديهم كرامة لهم وتأييدا.
فكان جواب القوم:
فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ آَيَاتُنَا مُبْصِرَةً قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ: فالآيات قد بلغت حد البيان التام الرافع لكل لبس أو إجمال حتى صحت نسبة الإبصار إليها، وإنما الإبصار في الحقيقة وصف الناظر فيها، ومع ذلك لم يلتزموا لازمها إذ هي، كما تقدم مرارا، توطئة للتكليف بأحكام الألوهية، فلا يجريها على يد بشر إلا رب البشر القدير الخلاق العليم الحكيم، فإذ ثبتت له هذه الأوصاف الربانية على حد الكمال المطلق، فالواجب في حقه أن يفرد بالتعبد والتأله على حد الخضوع الباطن والانقياد الظاهر.
وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ:
فذلك جار مجرى الاعتبار بالنظر في أحوال الأمم الغابرة على حد قوله تعالى: (أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ)، فإن لحوق الذم بها مئنة من لحوقه طردا بمن قام به وصف التكذيب الموجب له، فذلك من القياس الجلي أو المساوي، وعدم لحوقه بمن لم يتصف بالوصف الموجب له ثابت عكسا، فذلك قياس العكس، فالحكم مطرد منعكس.
فكفرهم كفر جحود من بلغته الحجة على حد البيان الملزم فردها ظلما وعلوا، فذلك من جنس الظلم الأعظم، ولا يكون ذلك إلا مقرونا بإرادة العلو والطغيان، فهما أمران متلازمان فما رد أحد شريعة إلا لكبر في نفسه، وذلك مما يناقض وصف العبودية التي يلائمها التواضع والخضوع لأمر الرب، جل وعلا، الشرعي المهيمن.
والله أعلى وأعلم.
ـ[مهاجر]ــــــــ[18 - 10 - 2009, 06:19 م]ـ
ثم ذكر طرفا من خبر داود وسليمان ضمنه دلائل عناية خاصة بهما، إذ هما من اجتمع فيه وصف الرسالة ووصف الملك من بني إسرائيل فكان ملكهما بيانا عمليا لحكم الرسالة السماوية للأمم والممالك الأرضية، وذلك معنى مطرد في كل الرسالات، رغم أنف العلمانيين، فأعدل الأحكام وأكمل الأحوال لا تكون إلا في ظل النبوة أو الخلافة لها على حد الرشد بإعمال شرائعها، فحيث كانت النبوة: كان العدل الذي يأمن الناس فيه على أديانهم وأبدانهم فالنبوة قد عمت بركتها الموافق والمخالف، فالموافق ينعم بها في الأولى والآخرة، والمخالف ينعم بعدلها في دار الابتلاء، ومرده إلى دار العذاب إذ لم يؤمن بها مع ظهور حجتها وسطوع أدلتها.
وَلَقَدْ آَتَيْنَا دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ عِلْمًا: فتلك أعظم المنن ولذلك قدمت على نعمة الملك الدنيوي، ولازم النعمة شرعية كانت أو كونية: الحمد فهو من التكليف الشرعي على ما اطرد مرارا من التلازم الوثيق بينهما:
¥