ومن قوله تعالى: (قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلَامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى آَللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ (59) أَمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَهَا أَئِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ (60) أَمْ مَنْ جَعَلَ الْأَرْضَ قَرَارًا وَجَعَلَ خِلَالَهَا أَنْهَارًا وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزًا أَئِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (61))
فـ: "خير": منزوعة الدلالة على التفضيل إذ لا خير في آلهتهم أصلا، وإنما سيق التفاضل تنزلا مع الخصم لإظهار كمال عجز آلهته في مقابل كمال قدرة الرب جل وعلا، وهو الذي أطنب في بيانه في الآيات التالية، على التذييل بالعلة، فإن عيب آلهتهم بالنقص ومدح الرب، جل وعلا، بالكمال، في معرض التفضيل في باب الألوهية علته انفراده، جل وعلا، بأوصاف الربوبية المذكورة في الآيات التالية، كما تقدم، فمنها آيات دالة على:
ربوبية الإيجاد:
أَمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَهَا أَئِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ:
فالإضراب بـ: "أم" التي أشربت معنى: "بل": إضراب انتقالي من المعنى التهكمي الذي دلت عليه المفاضلة السابقة على حد التنزل في الجدال، كما تقدم آنفا، إلى المعنى التقريري لربوبية الباري، عز وجل، الذي أوجد السماء والأرض لا على مثال سابق، فهو: (بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ)، فمن بدع الكون على هذا النحو المتقن فأمره فيه مقضي على حد النفاذ لا محالة، فإذا صدر الأمر التكويني: "كن": ظهر الكائن به بعد صدوره على حد الفور بلا تراخ مئنة من كمال ونفاذ قدرته الكونية جل وعلا.
فخلقها تقديرا من الأزل وإيجادا لما شاء فأمر فكان المأمور اللاحق على حد المقدور السابق، فذلك مئنة من كمال قدرته وإتقان صنعته فهي صنعة عليم بالمقادير حكيم في إجرائها وإظهارها في عالم الشهادة على حد تظهر به آثار حكمته البالغة، فضلا عما يصل عباده من آثار رحماته بمصالح عاجلة وآجلة يستقيم بها أمر المعاش والمعاد، فهو المحمود، جل وعلا، لكمال ذاته وصفاته، المحمود لما يصل إلى عباده من آثار ذلك الكمال من الرحمات العاجلة والآجلة، فبرحمة الرحمن يستقيم أمر الخلائق في دار الابتلاء، وبرحمة الرحيم ينعم أهل الإيمان في دار الجزاء.
ثم ثنى بدليل جامع بين الإيجاد بإحياء الأرض الموات بأجناس الأشجار والثمار، والعناية بخلقه إذ ينتفعون بتلك الثمار إقامة لأبدانهم، كما ينتفعون بالوحي الهادي إقامة لأرواحهم.
وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَهَا: فنسب الإنزال والإنبات إليه، جل وعلا، إذ هو مجري سببه، بتأليف السحاب وإنزال الماء وإنبات الحب في الأرض، فأزال شبهة من رد الأمر إلى السبب وغفل عن المسبِّب، جل وعلا، كما أشار إلى ذلك صاحب "التحرير والتنوير" رحمه الله، فمن غلا في الأسباب فقد قدح في التوحيد، ومن أهملها فقد قدح في الشرع الذي أقيم على مباشرة الأسباب على حد التعبد والديانة، يقول ابن تيمية رحمه الله:
"فَالِالْتِفَاتُ إلَى الْأَسْبَابِ شِرْكٌ فِي التَّوْحِيدِ وَمَحْوُ الْأَسْبَابِ أَنْ تَكُونَ أَسْبَابًا نَقْصٌ فِي الْعَقْلِ وَالْإِعْرَاضُ عَنْ الْأَسْبَابِ بِالْكُلِّيَّةِ قَدْحٌ فِي الشَّرْعِ؛ بَلْ الْعَبْدُ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ تَوَكُّلُهُ وَدُعَاؤُهُ وَسُؤَالُهُ وَرَغْبَتُهُ إلَى اللَّهِ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - وَاَللَّهُ يُقَدِّرُ لَهُ مِنْ الْأَسْبَابِ - مِنْ دُعَاءِ الْخَلْقِ وَغَيْرِهِمْ - مَا شَاءَ". اهـ
ثم نفى ذلك الفعل عنهم على حد الكون المنفي إمعانما في اختصاصه بذلك الوصف الرباني، ثم جاء لازم ذلك من الإشارة إلى مسألة العبودية على حد الإنكار الإبطالي: " أَئِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ".
ثم جاء الإطناب في تقرير ذينك البرهانين:
أَمْ مَنْ جَعَلَ الْأَرْضَ قَرَارًا وَجَعَلَ خِلَالَهَا أَنْهَارًا وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزًا أَئِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ:
فالجعل في السياق كوني ولا تخلو الآية من دلالة عناية إذ ذلك من النعم الكونية، فالأرض قرار، والرواسي أوتادها، والأنهار العذبة تجري خلالها، والحاجز بين العذب والمالح كائن صيانة لكل أن يختلط بالآخر، فلكل منفعته، بل بين البحور حواجز كائنة، هي بمنزلة الطور الانتقالي من خصائص بحر إلى خصائص آخر، وإن كان كلاهما على وصف المالح كائن.
ثم ذيل بالاستفهام الإنكاري الإبطالي: "أَئِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ" باعتبار كون ما دون الله، عز وجل، من المعبودات باطلا، وهو توبيخي لهم باعتبار اتخاذهم تلك الآلهة ولو كانت باطلة: كائنا واقعا فاستحقوا التوبيخ عليه.
والله أعلى وأعلم.
¥