ـ[مهاجر]ــــــــ[25 - 10 - 2009, 05:44 م]ـ
ومن قوله تعالى: (أَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا اللَّيْلَ لِيَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ)
فذلك من الاستفهام الإنكاري التوبيخي لهم إذ أعرضوا عن آيات هي في سلك ربوبية العناية بهم، وبأبدانهم على وجه الخصوص، منتظمة، فالجعل في الآية على حد التكوين، وقد استوفى شطري القسمة العقلية الزمانية: الليل زمن الراحة والسكون، والنهار زمن السعي والاكتساب، وقد أسند إليه وصف الإبصار مبالغة على حد المجاز العقلي عند من يقول بجوازه في آي الكتاب العزيز، وإليه أشار صاحب "التحرير والتنوير"، رحمه الله، بقوله: "ووصف النهار بمبصر مجاز عقلي للمبالغة في حصول الإبصار فيه حتَّى جعل النَّهار هو المبصر. والمراد: مبصِراً فيه الناسُ". اهـ
والرؤية في هذه الآية جامعة بين:
رؤية البصر فبها تحصل صورة المعلوم الخارجي في الذهن، وهي رؤية عامة يشترك فيها كل المكلفين، بل هي في غيرهم من الكائنات الحية المتحركة الحساسة كالأنعام كائنة فلا اختصاص لهم بها، ولا معنى فيها يوجب المدح أو الذم ابتداء
والرؤية العلمية فبها يعمل العقل ذهنه فيما يرد إليه من صور خارجية فهي بمنزلة البيانات التي تفتقر إلى التحليل والتدقيق لاستنباط حكم منها، فتلك مما اختص به أولوا العقول المكتملات، فمن اقتصر على النوع الأول فهو والبهيمة سواء، إذ لم يستفد من عقله تصورا علميا صحيحا يتذرع به إلى حكم عملي صحيح، فلو تدبر في آيات الكون، لاستنبط منها وجوب اتباع الشرع، إذ من ذلك وصف خلقه من الإتقان لا بد أن يكون حكمه قد بلغ الغاية من الإحكام، فهو الخالق المقدر الذي أخرج الأعيان وفق ما قدر، وأنزل من الوحي ما تنتظم به أمور العالم إن سار العباد على وفق ما شرع، فالقدر والشرع متلازمان لا ينفك أحدهما عن الآخر، فالقدر من ربوبيته، والشرع من ألوهيته، فالأول: ملزوم والثاني لازمه، إذ انفراده بوصف الربوبية العامة على حد الانقياد والخضوع القهري لما قدره أزلا في عالم الغيب العدمي وقضاه في عالم الشهادة الوجودي: دليل استحقاقه كمال الألوهية على حد الانقياد والخضوع الاختياري، فإذا كانت عنايته الكونية قد عم نفعها الأبدان، فإن عنايته الشرعية قد عم نفعها الأرواح، وإن اختص بكمال الانتفاع بها من سدد فالتزم أحكامها كاملة، إذ بقدر النقصان في ذلك يكون نقصان الانتفاع بها في صلاح أمر الدنيا الحاضر، وصلاح أمر الآخرة الغائب، وهو الأولى بالاعتبار عند كل عاقل ينظر في المآلات.
ولذلك ذيل بقوله: (إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ): على حد الفصل لكمال التلازم بين ما تقدم من آيات الكون، وما يلزم منها من وجوب الإيمان بالشرع، فهو المراد لذاته، فالنظر في آيات الكون ذريعة إلى امتثاله.
والله أعلى وأعلم.
ـ[مهاجر]ــــــــ[26 - 10 - 2009, 02:42 م]ـ
ومن قوله تعالى:
(وَقَالُوا إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَمًا آَمِنًا يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقًا مِنْ لَدُنَّا وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ):
فتلك حجتهم الباهتة، إذ فيها من سوء الظن بالباري، عز وجل، ما فيها، فإن التزام الهدى مظنة تمكينهم لا إسلامهم إلى أعدائهم، وإن ابتلي حزب الإيمان بالتضييق والاستئصال الجزئي، فإن العاقبة والدولة لهم، وإن ظهر عليهم أعداء الرسالة في جولة أو جولات.
وجاء الفعل على حد الزيادة في المبنى مئنة من الزيادة في المعنى الذي يتذرع به أولئك إلى الإقامة على ما هم فيه من الضلال، على حد: الضرورات تبيح المحظورات!.
وتلك حجة من البطلان بمكان، ولذلك جاء التعقيب بتذكيرهم بدلائل العناية بهم من الأمن وسعة الأرزاق، و: "كل" بحسب السياق الذي ترد فيه إذ العموم هنا مخصوص بما يجبى إلى مكة من الثمار فليست ثمار كل شيء بداهة، وإنما جاء العموم تقريرا لعظم المنة الربانية عليهم.
وإليه أشار صاحب "التحرير والتنوير"، رحمه الله، بقوله:
"و {كل شيء} عام في كل ذي ثمرة وهو عموم عرفي، أي ثمر كل شيء من الأشياء المثمرة المعروفة في بلادهم والمجاورة لهم أو استعمل {كل} في معنى الكثرة". اهـ
أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَمًا آَمِنًا يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ: فذلك من الاستفهام التقريري للنعمة الكونية السابغة: نعمة الأمن التي لا تطيب نعمة إلا بها، فلو جمعت لك كل النعم مع افتقارك إلى الأمن فأنت في خوف ينغص عليك لذات تلك النعم، ولا يدرك ذلك إلا من ابتلي بالخوف على النفس أو المال أو العرض أو الولد، فمن عافاه الله، عز وجل، من ذلك الابتلاء العظيم فليسأل الله، عز وجل، السلامة في دينه ودنياه، وليدم الشكر بقلبه ولسانه وجوارحه، وليلتزم الطاعة ويجتنب المعصية صيانة لتلك النعمة إذ بذهابها يصير الحي في عداد الأموات فانتفاعه بحياته قد زال أو كاد.
وهو من جهة أخرى توبيخي لهم في معرض تذكيرهم بدليل العناية بهم مع توليهم عن أداء شكرها، بل تلبسهم بضده من الجحود والكفران، فناسب ذلك تقدير معطوف يزيد معنى التوبيخ شدة على وزان: أتركناهم ولم نمكن ........ ، ووصف الحرم بالأمن، فذلك أساس كل نعمة، كما تقدم، ثم جاء الوصف بجملة: "يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ" على حد المضارعة إمعانا في تقرير تلك العناية. أو هو بمنزلة الحال من النكرة: "حرما" إذ أكسبها الوصف: "آمنا": نوع تخصيص جوز وقوع الحال منها.
ثم جاء الإطناب في معرض تقرير هذه النعمة الربانية بحال أخرى: "رزقا" من: "ثمرات".
وقوله: "من لدنا": مئنة من عظم وشرف هذا الرزق، فشرفه من شرف من صدر عنه صدور المخلوق من خالقه، على ما اطرد من دلالة: "من" على ابتداء الغاية فابتداء غاية كل نعمة شرعية وكونية من رب البرية جل وعلا.
والله أعلى وأعلم.
¥