ـ[مهاجر]ــــــــ[27 - 10 - 2009, 06:00 م]ـ
ومنه أيضا:
قوله تعالى: (قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِيَاءٍ أَفَلَا تَسْمَعُونَ (71) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ النَّهَارَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلَا تُبْصِرُونَ (72) وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ):
فالاستفهام الأول "أَرَأَيْتُمْ": تقريري والرؤية فيه علمية، والاستفهام الثاني "مَنْ إِلَهٌ": إنكاري، كما أشار إلى ذلك صاحب "التحرير والتنوير"، رحمه الله، وجيء بـ: "إن" لندرة بل استحالة ذلك بمقتضى السنة الكونية الجارية إلا أن يشاء الله، عز وجل، خرقها، فهو على حد: "إن كان للرحمن"، في قوله تعالى: (قُلْ إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ)، فذلك من المحال، وإنما فرض تنزلا مع المخاطب، فناسب أن يجيء الشرط بـ: "إن" الدالة على ندرة وقوع الشرط أو استحالته، فليس كل ما اشترط لفظا بكائن فعلا، بل قد يمتنع لدلالة الشرع والعقل والحس على امتناعه، فالنقل الصحيح والعقل الصريح والفطرة السوية والحس السليم شاهد بانتفاء الشريك أو الولد عن الأحد الصمد عز وجل.
والجعل في الآية كوني، إذ هو في معرض الامتنان على الخلق بتعاقب الجديدين: الليل والنهار، وتلك نعمة صادرة من كمال ربوبيته بكلماته التكوينية النافذة.
فمن إله غير الله يأتيكم بضياء، والجواب بداهة: لا أحد، فتلك من عنايته بخلقه التي لا يشاركه فيها أحد إذ لا رب سواه، ولازم ذلك ما أشار إليه السياق بذكر لفظ: "إِلَهٌ": إذ لا إله معبود بحق سواه فرعا عن: لا رب صانع منعم معتن بالخلق بما أجراه عليهم من نعم الكون سواه، على ما تقرر من كون دليل العناية ذريعة إلى إثبات العبودية: المرادة لذاتها من هذا التقرير العقلي البديع الذي رتبت فيه النتيجة على السبب في نسق لفظي ومعنوي محكم يستنطق الخصم بالحجة الداحضة لمقالته فذلك آكد في إقامتها عليه.
وجاء التذييل بـ: "أَفَلَا تَسْمَعُونَ": على حد الاستفهام الإنكاري التوبيخي لتوليهم عن سماع التدبر الذي ينتفع به، وإن حصل لهم سماع الإدراك الذي تقام به الحجة عليهم، والسمع يلائم ظلام الليل، إذ الظلمة تحد من قدرة العين على الإبصار فيصير مناط التدبر آنذاك ما تتلقفه الأسماع من صحيح الأدلة والحجج السمعية والعقلية.
وعلى سبيل استيفاء القسمة العقلية وإظهارا لعظم النعمة بتعاقب الضدين دون الاقتصار على أحدهما ولو كان أكمل وأعظم إذ اسنمراره سرمديا مظنة السآمة، كما أشار إلى ذلك صاحب "التحرير والتنوير" رحمه الله، فضلا عن كونه مما قد يتذرع به إلى نفي إرادة الرب، جل، الفاعلة في الكون بالإحداث والتغيير، وآكد صور ذلك تعاقب الضدين، فخلق الشيء وضده، كما تقدم في أكثر من موضع، من دلائل كمال ربوبية الله، عز وجل، فعلى سبيل استيفاء تلك القسمة العقلية:
قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ النَّهَارَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلَا تُبْصِرُونَ:
وجاء التذييل هنا بـ: "أفلا تبصرون" على عكس ما ذيلت به الآية الأولى إذ النهار مظنة الإبصار فيكون تأمل الآيات الآفاقية والنفسانية بالعين الباصرة فيه أيسر.
ثم جاء الامتنان بذكر منافع تلك الكائنات الحادثة بجعله الكوني فـ:
وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ: فـ: "من" للتبعيض إن أريد بها الرحمات المخلوقة على وزان قوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: "فقال الله عز وجل للجنة، أنت رحمتي أرحم بك من أشاء"، فتكون إضافتها إليه جل وعلا من قبيل إضافة المخلوق إلى خالقه تنويها بشأنها إذ عظم النعمة من عظم المنعِم بها، أو هي لابتداء الغاية إن أريد بها رحمته التي هي وصفه، فهي مبتدأ النعم الكونية إذ عنها تصدر بمقتضى الكلمات الكونيات النافذات، صدور المسبَّب من سببه، فهي سبب النعم الشرعية والكونية التي يتقلب فيها العباد ليل نهار، فتكون الإضافة من باب إضافة الصفة إلى الموصوف، وقد تحمل: "من" على هذا التقدير على السببية، فبسبب رحمته الكونية العامة التي شملت البر والفاجر: جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ: فذلك من اللف والنشر المرتب، فمقابل: "الليل": "لِتَسْكُنُوا فِيهِ"، ومقابل: "النهار": "وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ"، والجعل على ما تقدم: كوني لدلالة سياق الامتنان عليه، ثم ذيل بعلة الامتنان بتلك النعم على حد إيجادها فهو من الإعجاز بمكان فلا أحد غيره، جل وعلا، يقلب الليل والنهار، وعلى حد العناية بالخلق بما يتولد عنها من المنافع في الأبدان والسعي في الأرزاق، ذيل بعلة ذلك من واجب العبودية فـ: لعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ: بالقلب واللسان والجوارح فيواطئ الظاهر الباطن، وذلك عند التحقيق، وإن كان واجبا من وجه، إلا أنه نعمة من وجه آخر، إذ اصطفاء الرب عبده لطاعته أعظم نعمة يمن بها عليه لمن نظر وتأمل.
والله أعلى وأعلم.
¥