ـ[مهاجر]ــــــــ[28 - 10 - 2009, 05:51 م]ـ
ومن قوله تعالى في سورة العنكبوت: (خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ):
فخلقها تقديرا في الأزل فذلك متعلق علم التقدير الذي يأتي الإيجاد، وهو المعنى الثاني للخلق، على وفقه، فذلك مئنة من إتقان وإحكام الصنعة، ولا يكون ذلك إلا بحكمة بالغة وقدرة نافذة، كما تقرر في مواضع أخرى، فذلك معنى يستحق التوكيد بالتكرير، فإن شهود المعاني العلمية لمراتب القدر من كون الشيء معلوما في علم الرب الأزلي، فمسطورا في اللوح على حد الإبرام وفي صحف الملائكة على حد التعليق، فإذا شاءه كان في عالم الشهادة بخلقه إياه بقدرة نافذة على حد ما علمه أزلا، وبكيف وكم تتحقق به حكمة الرب، جل وعلا، فتظهر آثارها في المخلوق، ولو كان في نفسه شرا محضا، فالشر فيه لا في القدر الذي به كان، وهو شر جزئي تستجلب به من الحكم الربانية والمصالح الكلية للعباد، ما يفوق تلك المفسدة العارضة، وإن خفي وجه الحكمة عن أذهاننا فإنه أمر جل عن إحاطة العقول بكنهه، وإن كان لآحاد المخلصين نصيب من إدراكه ببصائرهم التي ترى بنور الفراسة الإيمانية.
والشاهد أن أي خلق لا بد أن يمر بتلك المراحل التي يظهر من خلالها طرف من كمال أوصاف الرب، جل وعلا، ففيها من دليل الإيجاد المعجز ما يستدل به على لزوم امتثال الشرع المنزل.
والحال: "بالحق": كاشفة في معرض الإطناب في بيان كمال أوصاف الرب، جل وعلا، فالخلق مئنة من القدرة النافذة، ولكنها ليست على وزان قدرة كثير من البشر ممن لهم قدرة على الفعل، ولكنهم يفتقرون إلى الحكمة، فتقع أفعالهم على غير سننها، فهي إلى أفعال السفهاء أقرب، وهذا حال كثير من المتنفذين في زماننا ممن حرموا بركة اتباع الوحي فوكلوا إلى أنفسهم مع ما أجرى الله، عز وجل، عليهم من نعمة السلطان والجاة وسعة المال، فصارت تلك النعم في حقهم استدراجا، لافتقارهم إلى الحكمة التي لا تتلقى إلا من التكليف الشرعي بالأمر أو النهي، وذلك معنى منتف بداهة عن الله، عز وجل، إذ هو من المحال الذاتي في حقه، جل وعلا، لما فيه من النقص المطلق الذي يأنف منه آحاد العقلاء من البشر فكيف بأحكم الحاكمين، ولذلك جاء التقييد بالحال المتقدمة: "بالحق": مئنة من حكمته، جل وعلا، فخلقه بقدرة نافذة وحكمة بالغة، كما تقدم، فليس خلقا لمجرد إظهار القدرة بلا حكمة على حد المشيئة المطلقة، كما زعم المتكلمون من نفاة الأسباب والعلل في باب القدر، بل هو خلق مقرون بالحكمة تظهر به صفات الجلال فالقدرة منها، وصفات الجمال فالحكمة منها.
ثم جاء التذييل بكون ذلك آية للمؤمنين الممتثلين لحكم الشرع على ما اطرد مرارا من بسط المقال في دليل الإيجاد ليتذرع به إلى إثبات انفراد الرب المعبود بحق بأجناس التأله والعبودية بمقتضى ما سنه من الطريقة الشرعية.
والله أعلى وأعلم.
ـ[مهاجر]ــــــــ[29 - 10 - 2009, 04:51 م]ـ
ومن قوله تعالى: (وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لَا تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللَّهُ يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُمْ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ)
فذلك من دليل العناية إذ أجرى الله، عز وجل، الأرزاق على الدواب، فلا تحمل رزقها كناية عن عدم استقلالها بتدبير أمرها، فيراد به حقيقة الحمل على الظهر أو مجازه بمعنى التكلف، كما أشار إلى ذلك صاحب "التحرير والتنوير" رحمه الله، فإن طلب الأرزاق يكون ببذل الأسباب، ولكن جريانها لا يكون إلا بكلمات الرب، جل وعلا، الكونيات النافذة، التي تخضع لها تلك الأسباب إيجادا وجريانا، فبالكلمات الكونيات توجد الأسباب، وبها تجري وفق السنن الكونية المحكمة لتنتج مسبَّاتها، فيقدر الرب، جل وعلا، لها السبب العاضد إذ لا سبب في الكون المخلوق يعمل بمفرده بل لا بد من عاضد موجود ومانع معدوم، فيوجد الرب، جل وعلا، العاضد، ويعدم المانع، فمرجع الأسباب كلها إليه، إذ كلماته النافذة الصادرة عن أوصافه الفاعلة هي السبب الذي لا سبب وراءه، فما شاء كان، وما لم يشأ لم يكن.
فالحاصل أن إجراء الأرزاق على الله، عز وجل، على حد الربوبية، بعد بذل الأسباب على حد الانقياد لأمر العبودية.
فالعناية بإجراء الرزق، والعبادة ببذل السبب الموصل إليه.
فـ: اللَّهُ يَرْزُقُهَا: على حد المضارعة فذلك مئنة من التجدد والاستمرار فلا ينفك مخلوق عن طلب الرزق: طعاما أو شرابا أو هواء، وإن كان من العقلاء فلا ينفك عن طلب رزق التأييد والتسديد بالإرشاد إلى طريق الحق وتثبيت القدم حال السير عليه.
وَإِيَّاكُمْ: فذلك من الإطناب في معرض بيان عموم رزقه جل وعلا لكل الكائنات.
وقدم المسند إليه لفظ الجلالة: "الله" على المسند: "يرزقها" مئنة من الاختصاص، فهو قصر بتقديم ما حقه التأخير، كما أشار إلى ذلك صاحب "التحرير والتنوير" رحمه الله، فآل معناه إلى: الله وحده يرزقكم فهو السميع لدعائكم الرزقَ العليم بما قام بقلوبكم من رجائه والتوكل عليه في تحصيل الرزق، فله كمال الصفات الذاتية والفعلية، إذ الرزق باعتبار نوعه: صفة ذات للرب، جل وعلا، وباعتبار آحاد المرزوقات النازلة من السماء، وآحاد المرزوقين في الأرض: صفة فعل تتعلق بمشيئته، جل وعلا، فيرزق من يشاء ما يشاء، يبسط إذا شاء ويقبض إذا شاء، بمقتضى قدرته النافذة وحكمته البالغة في المنع والإعطاء.
فإذا كان ذلك وصفه فله كمال الربوبية إيجادا للأرزاق وإجراء لها عناية بالمرزوقين، فكيف صح في الأذهان التعبد لسواه من آلهة تعجز عن تدبير رزقها فضلا عن رزق غيرها، فهي على ذات الحد من الافتقار إلى عطاء الرب، جل وعلا، الكوني، الذي به صلاحها وبقاؤها؟!.
والله أعلى وأعلم.
¥