ـ[مهاجر]ــــــــ[30 - 10 - 2009, 05:33 م]ـ
ومن قوله تعالى: (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ):
فالتوكيد باللام الموطئة الداخلة على الشرط ولام الجواب ونون التوكيد المثقلة في جواب القسم المقدر: مئنة من التوكيد إذ لا سبيل لهم إلى إنكار تلك الحقيقة التي أجمع عليها العقلاء، حتى أهل الإلحاد منهم، فإنهم في باطنهم مقرون بذلك، فهو من العلم الضروري الذي يضطر صاحبه إلى الإقرار، وإن كذب بلسانه، فلسان حاله، بل مقاله، إذا وقع في ضائقة شاهد ببطلان دعواه حال السعة، فحاله في السعة: (وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ)، وحاله في الضيق: (فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ).
فهم مقرون بربوبية الباري، عز وجل، الذي قدر الخلق أزلا في عالم الغيب ثم أوجده في عالم الشهادة على ما قدر وقضى، فذلك، كما تقدم مرارا، مئنة من إحاطة علم التقدير وبلوغ الحكمة ونفاذ القدرة، وأفرد الشمس والقمر بالتسخير إمعانا في تقرير دلالة الإيجاد إذ حالهما في التعاقب معجز لا يقدر عليه إلا مقلب الليل والنهار، جل وعلا، كما أشار إلى ذلك صاحب "التحرير والتنوير" رحمه الله، فهو جار مجرى الخصوص بعد العموم تنويها بشأنه، وفيه إشارة لطيفة إلى كمال عنايته، عز وجل، بعباده، فهو تذكير لهم بنعمة تعاقب الليل والنهار، فلكل وظائفه التي يستقيم بها حال البشر، بل والشجر والحجر.
والتسخير من جهة أخرى: من التدبير، فاستوفى السياق ركني الربوبية: خلق الشيء وتدبيره.
ولما كان ذلك الإقرار بالربوبية: إيجادا وعناية مظنة الإقرار بالألوهية، بل إفراده، عز وجل، بها لازم هذا الاعتراف بالخلق والتسخير، لما كان الأمر كذلك من جهة الاستدلال العقلي الصريح الذي تترتب فيه المسبَّبات على أسبابها، فلا يتخلف المسبَّب إذا وجد سببه، كان الأولى بهم أن يقروا بالألوهية فهي النتيجة العقلية الصحيحة لسبب الإقرار بالربوبية، وإلا كان العقل مضطربا، ولكنهم عدلوا عن ذلك، فاستحقوا الإنكار والتوبيخ في قوله: (فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ)، مع ما فيه من التعجب من حالهم إذ كيف يصرفون عن لازم الحق، وقد أقروا بملزومه، فإقرارهم بالربوبية وإنكاركم الألوهية جار على حد: التفريق بين المتماثلات، إذ حق كليهما الإقرار، فمن أقر بالأول لزمه الإقرار بالثاني لزوما.
وفي الآية دليل على من قصر التوحيد على التوحيد العلمي: توحيد الربوبية، فجعل مجرد المعرفة أو التصديق العلمي ولو بلا إقرار وانقياد باطن وظاهر كافيا في تحقق الإيمان، فإن لازم ذلك تصحيح إيمان أولئك الذين أقروا بأحكام الربوبية النافذة، وأبوا الانقياد لأحكام الألوهية الشارعة.
فالربوبية مرادة لغيرها فليست مراد الرسالات الأول، بل قد نزلت الرسالات وبعث الرسل لتقرير: توحيد الألوهية: المراد لذاته من بسط المقال في أدلة الإيجاد والعناية الربانية.
والله أعلى وأعلم.
ـ[مهاجر]ــــــــ[31 - 10 - 2009, 02:50 م]ـ
ومن قوله تعالى: (اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ)
فذلك في معرض بيان عموم ربوبيته، عز وجل، فيبسط الرزق لمن يشاء، على حد المضارعة وما اطرد من التوكيد بتقديم المسند إليه، فذلك مئنة من التجدد والاستمرار فأرزاقه على عباده نازلة فضلا منه وامتنانا، فذلك من عنايته، عز وجل، بعموم المكلفين، ويقدر، فذلك مقابل البسط، لئلا يتوهم متوهم عجزه عن مقابل وصف البسط الفعلي، فيقدر الأرزاق على من شاء، على ذات الحد من المضارعة، عدلا منه، تبارك وتعالى، ولو نظر المبتلى بضيق الرزق إلى الأمر من جهة الحكمة، لعلم أن في ذلك خير آجل، في دار الدنيا فكثيرا ما يبتلى العبد بالتضييق ابتداء ثم يمن الله، عز وجل، عليه بالفتح، فيكون للسعة بعد الضيق أثر أعظم في نفسه، فذلك مما يحمله على مداومة الشكر، فليس من ذاق مرارة الفقر ثم عوفي منها كمن لم يباشرها فغايته أنه قد سمع عنها!، مع كون ذلك أفضل باعتبار المآل لكثير من المكلفين على حد قوله تعالى: (وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ وَلَكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ)، فذلك مئنة من تمام علمه بأحوال عباده وما جبلوا عليه من الطغيان إذا غلوا في تحصيل أسباب الدنيا وجفوا في تحصيل أسباب الآخرة، فاقتضت حكمته ألا يبسط لكثير الرزق إذ أراد بهم خيرا لو صبروا، واقتضت حكمته استدراج فئام أخرى ببسط الأرزاق، على ما حد ما جري لقارون موسى عليه السلام، وما يجري لكل قارون أتى بعده، فتلك من سننه الكونية الجارية التي ظهر بها من وصف جلاله بالأخذ الشديد بعد الإملاء ما يجعل صاحب النعمة على حذر.
فالحاصل أن التضييق، مع كونه في ظاهره محنة، إلا أنه قد يكون منحة ربانية عناية بصاحبه ألا يطغى فيفوته ما ادخره الله، عز وجل، له في الدار الباقية، وتلك معان يلزم لاستحضارها استحضار معاني العلم والحكمة والقدرة الربانية التي يجري بها الباري، عز وجل، أقداره الكونية، وليس ذلك مما يحصل بالكلام، بل لا بد من مران النفس عليه على قدر الاستطاعة، لتهون مصائب الدنيا على المكلفين فلا يسلم منها أحد، وإنما يتفاضلون بمدافعتها بما سن الرب، جل وعلا، من السنن الشرعية والكونية.
فليس معنى الصبر: الاستسلام على حد العجز، وإنما هو مدافعة على حد الكيس، ولو بحبس النفس عن الجزع والتسخط إن لم يملك المكلف حيلة في رفع المقدور بالمشروع.
والله أعلى وأعلم.
¥