تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

فجاء الاستفهام إنكاريا توبيخيا لهم إذ فترت هممهم، وكلت عقولهم عن التفكر، فالسياق جار على ما اطرد في مثل هذه المواضع من تقدير محذوف يلائم دلالة الاستفهام الإنكارية من قبيل: أما لهم عقول فيتفكروا بها؟!، وجاء التفكر على حد التفعل مئنة من الطلب، فإن من آكد وظائف العقل النظر والتأمل في آيات الكون المشهودة على حد التفكر في سننها ودقائقها، لا مجرد النظر في حركاتها الميكانيكية طلبا لنفعها المادي، فذلك غرض صحيح، ولكنه لا يليق بأن يكون أول مطلوب العقل الصريح، بل أول مطلوب كل عاقل: سلامة المآل، بالسير على طريقة مرضية لرب البرية، جل وعلا، ومن ثم تأتي عمارة الكون باكتشاف وتوظيف ما أودع الله، عز وجل، في خلقه من القوى الطبيعية الفاعلة المؤثرة التي لا تعمل إلا وفق مشيئته، عز وجل، فهو خالقها ومجريها.

وجاء التفكر ليشمل الآيات النفسانية: "فِي أَنْفُسِهِمْ"، والآيات الآفاقية: "السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ"، على القول بأن النفس متعلق من متعلقات فعل التفكر، بخلاف ما لو قيل بأنها محله، فيكون المعنى حينئذ: أو لم يتفكروا في أنفسهم فذلك إجمال ولد في ذهن المخاطب تساؤلا عما يجب التفكر فيه، فجاء الجواب مفصولا للتلازم الوثيق بين المجمل والمبين له: في خلق السماوات والأرض، فيكون التفكر في هذه الحال مقتصرا على الآيات الافاقية، وقد أشار صاحب "التحرير والتنوير"، رحمه الله، إلى كلا الوجهين، وقد يقال برجحان الوجه الأول من جهة عموم معناه لكلا النوعين من الآيات، فالأصل في ألفاظ الوحي حملها على العموم ما أمكن إثراء للسياق، ويقد يقال من جهة أخرى، إن الوجه الثاني متضمن لكلا النوعين إذ التفكر فيما خلق الله، عز وجل، في السماء والأرض، يعم بداهة النفوس الأرضية، ولكن دلالته عليها: دلالة تضمن، بخلاف ما لو أفردت بالذكر، كما في الوجه الأول فتكون دلالة السياق عليها: دلالة مطابقة، وهي أرجح من جهة المعنى من دلالة التضمن، إذ دلالتها على المعنى: دلالة كل على كل، بخلاف دلالة التضمن فهي دلالة كل على بعض، فلو ذكرت أولا كانت خصوصا أعقبه عموم يتضمنها أيضا، فيكون ذلك من صور الإطناب.

وعلى كلا الوجهين، يكون في الآية إشارة إلى دلالة الإيجاد المعجز للكون: ساكنه ومتحركه، حيه وجامده، ففيه إشارة إلى التفكر في النفوس الحساسة المتحركة، والأجرام والأعيان الجامدة الدائرة في أفلاكها، أو الساكنة في مواضعها كالجبال الراسيات، ولا تخلو من دلالة عناية إذ الكون مسخر للبشر على حد قوله تعالى: (هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا)، فما خلق ذلك إلا بالحق، فليس عبثا أو لعبا، وما خلق على حد الديمومة في دار الفناء بل أجل مسمى مقدر، ثم جاء التذييل بما يدل على علة تقرير تلك الدلالات، إذ مع كل ذلك كفر كثير من الناس بلقاء الباري، عز وجل، فجفوا في امتثال الطريقة الشرعية التي سيقت تلك الآية الكونية لتقريرها، وجاء التوكيد بـ: "إن" واللام المزحلقة في: "وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ لَكَافِرُونَ" تنزيلا للمخاطب منزلة المنكر، فكأنه لسلامة عقله واستواء فطرته يكاد ينكر وجود كافر بالله، عز وجل، بعد كل تلك الحجج والبراهين التي بثت في الكون شاهدة بطلاقة القدرة الربانية النافذة، فجاء الخبر على ضد ما يتصور، فحسن توكيده، فهو، وإن أثبت كفرهم بلقاء الرب، جل وعلا، إلا أن النظر في سياقه الإنكاري يحمل النفس على سلوك ضد طريقتهم لما لحقهم من الذم تعريضا بالاستفهام وتصريحا بما هم عليه من الجحود والكفران، ففيه من هذا الوجه إثبات للقاء الرب، جل وعلا، وذلك مما يلائم إثبات خلق السماوات والأرض بالحق، فالإثبات يلائم الإثبات، وفي مقابلهما النفي الملائم للنفي قي قوله تعالى: (أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ)، فيقابل تصور الخلق عبثا حقيقة الخلق بالحق، وإن كان الأول على حد الإنكار والثاني على حد التقرير، ويلاقي إنكار الرجوع إلى الله، عز وجل، إثباته المستفاد من دلالة هذا السياق، على ما تقدم بيانه، فالزوجان متقابلان على الترتيب: الأول يقابل الأول، والثاني يقابل الثاني، كما استنبط ذلك صاحب "التحرير والتنوير"، رحمه الله، بدقته المعهودة ونظره المدقق المحقق، والدلالة المعنوية في كليهما واحدة: إشارة إلى أدلة الربوبية يعقبها إشارة إلى لازمها من تصديق خبر البعث على حد الإقرار الجازم، وذلك يولد لزوما تصورا علميا صحيحا يحمل صاحبه على السير وفق ما جاءت به الرسل وأنزلت به الكتب، فتصح بذلك عبوديته بالعمل الصالح فرعا عن عبوديته بالعلم النافع، فهو فاعل للطاعة بما امتن الله، عز وجل، عليه من صحة التصور الأول الذي يولد في القلب إرادة جازمة بها تقع مفعولات العبد على مراد الرب، جل وعلا، الشرعي.

والله أعلى وأعلم.

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير