ـ[مهاجر]ــــــــ[21 - 11 - 2009, 04:36 ص]ـ
ومن قوله تعالى: (وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً فَرِحُوا بِهَا وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ إِذَا هُمْ يَقْنَطُونَ):
فذلك، أيضا، جار مجرى التعجب من حالهم، على ما اطرد من إثبات الوصف للرب، جل وعلا، على الوجه اللائق بجلاله، وهو يفيد بمعناه الإنشاء، وإن كان مبناه خبريا محضا، على ما اطرد في نصوص المدح والذم، فيفرحون بالرحمة فرح الأشر ويقنطون في المصيبة قنوط اليأس!، وقد نسبت إذاقتهم الرحمةَ إلى الرب، جل وعلا، مباشرة، على ما اطرد من خطاب القرآن من نسبة الخير إلى الرب، جل وعلا، وجاءت إصابتهم بالشر مبنية لما لم يسم فاعله، للعلم به أولا، فهو، جل وعلا، خالق كل الأعيان والأفعال: خيرها وشرها، فما كان فيها من خير فهو منه، جل وعلا، وما كان فيها من شر فهو منه خلقا لا فعلا، فالشر ليس إليه فعلا وإن خلقه في محال هي له أهل، فخلقه فيها، عند التأمل، عين الحكمة الإلهية على ما اطرد مرارا، من حد الحكمة، فخلق الخير بفضله وخلق الشر بعدله، وذلك مئنة من كمال وصفه، عز وجل، فبالخير يرحمون وبالشر يبتلون ليظهر مكنون صدورهم، فخلق الخير كليا، وخلق الشر جزئيا في المخلوق لا في فعله، عز وجل، وهو في حقيقته لمن تدبره ذريعة إلى تحصيل خير آجل لا ينال إلا بمدافعة الشر العاجل بما شرع الرب، جل وعلا، من الأسباب الكونية والشرعية، لئلا تبطل الشرائع بالاحتجاج عليها بالأقدار الكونية، وإنما خلق الله، عز وجل، الشر، وخلق معه سبب مدافعته، لتظهر حكمة الرب، جل وعلا، في ذلك، ببذل العباد الأسباب تأويلا لما قد علم أزلا وسطر ولما يخلق الكون بعد.
فذلك مئنة من قدرته العامة، عز وجل، على إيجاد الموجودات جميعها على اختلافها وتضادها، وعنايته بخلق الخير وأسبابه، وحكمته بخلق الشر الذي لا يخلو من صور العناية بالخلق إذ خلق معه ما يدفعه أو يرفعه، فتظهر آثار حكمته في تلك المدافعة أو المرافعة، فضلا عن كونه تطهيرا لأهل الإيمان إذا هم صبروا فلم يقنطوا فذلك تأويل الأمر الذي دل عليه الخبر بإشارته فذم القانط تحذير من سلوك طريقته، وأمر بالسير على ضدها.
والله أعلى وأعلم.
ـ[مهاجر]ــــــــ[23 - 11 - 2009, 07:52 ص]ـ
ومن قوله تعالى: (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ)
أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ: فذلك استفهام فيه معنى الإنكار والتوبيخ، إذ مضمونه قد وقع فعلا، فهم غافلون عن رؤية آيات القدرة الربانية في بسط الأرزاق وقدرها وفق حكمة دقيقة لطيفة فتخفى على كثير من العقول، ولا يحيط بها أي عقل، وإنما يمتن الله، عز وجل، على بعض خلقه بإدراك طرف منها، إذ هي كسائر صفات الرب، جل وعلا، لا تحيط بها العقول علما، وإن أدركت طرفا من معاني الكمال فيها في دار الابتلاء، وأدركت طرفا من حقائقها التي تعجز العقول عن حدها، فتراه، عز وجل، العيون في دار النعيم ولا تحيط بكمالات ذاته وصفاته، فالأمر جار على ذاته وصفاته معنوية كانت كالحكمة أو ذاتية كالوجه فكل ثابت له، عز وجل، على الوجه اللائق بجلاله، وكل قد أعيى العقول إدراك حقيقته، فلا يدرك العقل منها شيئا في دار الابتلاء، ويدرك طرفا منها في دار النعيم منحة من الرب الجليل الكريم.
وَيَقْدِرُ: فذلك من طباق الإيجاب بين المتضادين: البسط والقدر، فذلك جار على ما تقدم مرارا من عموم الربوبية للمتضادات فذلك آكد في بيان قدرة الرب، جل وعلا، على البدع والاختراع، ولا يخلو من وجه عناية فالفقر صلاح لكثير من أصحابه، وإن كان العبد مكلفا بتحصيل أسباب الرزق فلا يقعد عن الطلب متعللا بالزهد فإن في ذلك معارضة للشرع بالقدر، وتعريضا للنفس إلى منة الخلق، فمن أراد التخلي لطلب علم، أو تنسك ....... إلخ فلا أقل من أن يكون مستغنيا بما أجرى الله، عز وجل، له من سبب رزق يصون به أديم وجهه عن سؤال الخلق، فإن في سؤالهم ذل الدارين، وقانا الله، عز وجل، شر الذل لسواه.
فـ: إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ: فذلك تعريض بمن لم يؤمن فتلك الآيات العقليات الباهرة لا يقدر على فهمها عقله الضيق الذي استغلق عليه إدراك معاني الربوبية التي يجدها في نفسه ضرورة حسية وفطرية، ولكنه لفساد إرادته يعرض عنها فلا ينتفع بها فتصبح في حقه كلا آيات، وإن كان مخاطبا بها على حد التكليف وإقامة الحجة الرسالية، وهو تعليل لما تقدم من الآيات الكونية، فهي مناط التدبر العقلي الذي يولد في النفس إيمانا ويقينا بكمال أوصاف وأفعال الرب، جل وعلا، وذلك ما يولد في النفس ملكة التأله لذلك الرب القدير الحكيم على ما اطرد مرارا من التلازم الوثيق بين معاني الربوبية ومعاني الألوهية، ولذلك جاء التذييل بالتكليف الشرعي عقيب الدليل الكوني فـ:
فَآَتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ ذَلِكَ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ.
والله أعلى وأعلم.
¥