تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

فتفرعُ المسبَّبات عن أسبابها، وجريانها على ذلك السنن الدقيق، مئنة من كمال قدرة الرب، جل وعلا، على الإيجاد، فيخلق المسبب بما أودع في سببه من قوى التأثير، فلا يتخلف إلا إذا شاء ذلك لحكمة أعظم من حكمة إجرائه سواء أكان سببا معنويا، كالمعصية إذ بها يكون العقاب إلا أن يشاء الرب، جل وعلا، رفعه تفضلا وامتنانا، أم ماديا كسائر المسببات المحسوسة التي تصدر عن أسبابها المبذولة، وقد أقيم الكون والشرع على تلك المنظومة المحكمة من الأسباب الكونية والشرعية فالكون جار وفق نواميس ربانية لا تتبدل إلا إذا شاء الرب، عز وجل، ذلك، فإن تعلق الناس بالأسباب، كما تقدم في موضع آخر من قول بعض الفضلاء، أبطلها الله، عز وجل، إظهارا لقدرته وتذكيرا لهم بأوصاف جلاله، والشرع كذلك: فالسبب مؤد إلى مسببه، والعلة تنتج معلولها إلا إذا تخلف شرطها.

فظهر الفساد بما كسبت أيديهم، تغليبا لا مفهوم له، فالمعصية شؤم على صاحبها سواء اكتسبها بيده أو رجله أو عينه أو لسانه ........ إلخ من آلات الاكتساب.

وعلة ذلك: لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا: فذلك من رحمته فلو آخذهم بكل ما عملوا ما ترك عليها من دابة: (وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ مَا تَرَكَ عَلَيْهَا مِنْ دَابَّةٍ وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ)، ولا يخلو ذلك العقاب الشرعي من عناية بهم، إذ هو تذكير لهم: لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ، فليس لله، عز وجل، حاجة في عقابنا، وإنما يذكر البلاء صاحبه بالرب، جل وعلا، ليتوجه إليه، بالدعاء خاشعا: فيفيض عليه من عطايا مغفرته ومنح توبته، فيكون صلاحه الآجل في تلك النازلة العاجلة، فبها ظهرت حكمة الرب، جل وعلا، في ثوابه وعقابه، على ما تقدم من جريان المسببات فرعا عن أسبابها، وبها طهر العبد مما اكتسبته يداه، وبها استجلب العبد أسباب رضا الرب، جل وعلا، توبة عما فات واستغفار لما هو آت، فكل تلك الحكم الجليلات تفوق مفسدة وقوع الذنب، فهي لمن تأملها منح للعاصي وعناية ربانية به، مع كونها غير مرادة شرعا للرب، جل وعلا، فليست منحة إلا للتائب المنيب لا المصر المقيم، فإن القدر إنما يصح الاحتجاج به في المصائب لا المعائب، فالمعصية بعد التوبة: مصاب فيصح الاحتجاج بالقدر عليه، وقبلها: عيب فلا يصح الاحتجاج بالقدر عليه.

والله أعلى وأعلم.

ـ[مهاجر]ــــــــ[28 - 11 - 2009, 09:00 ص]ـ

ومن قوله تعالى: (وَمِنْ آَيَاتِهِ أَنْ يُرْسِلَ الرِّيَاحَ مُبَشِّرَاتٍ وَلِيُذِيقَكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَلِتَجْرِيَ الْفُلْكُ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ):

فمن آياته الكونية: آيات الامتنان، آيات العناية العامة التي يعم نفعها كل الموجودات حتى البهائم والنباتات، بل إنها إن نفعها يطال الصخر الذي تؤثر فيه الرياح فتحمل الفتات ليعاود الاجتماع فيترسب على مر الأعصار فينتج صخرا متماسكا من جديد.

من تلك الآيات: الإرسال الكوني للرياح، الذي جاء مؤخرا وحقه التقديم إمعانا في التشويق بذكر الحكم الذي تتطلع بعده النفس إلى معرفة المحكوم عليه وجيء به مضارعا دخلت عليه: "أن" على ما اطرد من الدلالة التوكيدية والاستقبالية لهذا التركيب، فهو أمر متجدد وذلك آكد في تقرير المنة الربانية بتقرير تجددها واستمرارها، فذلك مما يذكر الناظر المتأمل بآثار تلك النعمة الدائمة، وجمعت الرياح إذ الجمع مظنة تنوع أوجه الانتفاع بها فرعا عن تنوعها، وفي حديث: "اللهم أجعلها رياحا ولا تجعلها ريحا"، بل إن ريح العذاب، وإن كانت نقمة على من هبت عليه إلا أنها آية كونية من وجه، ففيها من آثار جلال وصف الرب جل وعلا ما فيها: (وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ)، فأخذه شديد وعقابه أليم قد تنوعت صوره مئنة من قدرته بل حكمته، جل وعلا، إذ لكل ذنب عذاب يناسبه فقلبت قرى لوط لما بدلوا الفطرة الأولى، وأجرى الله الأنهار على فرعون لما تبجح بجريانها تحته، وخسف بقارون لما ظهر واستعلى، ونعمة كونية من وجه آخر ففيها من أوصاف حكمة وجمال الرب

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير