وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ: بالتجارات، كما ذكر أبو السعود رحمه الله، فذلك أثر آخر من آثار رحمة ربك بإرسال الرياح.
ومقابل ما تقدم من آثار الرحمة جاء التكليف الشرعي:
وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ: فما تلك النعم التي هي من أدلة كمال الربوبية إلا ذريعة إلى تحقيق معاني الألوهية بإفراده، عز وجل، بالتأله والتنسك.
والله أعلى وأعلم.
ـ[مهاجر]ــــــــ[01 - 12 - 2009, 08:57 ص]ـ
ومن قوله تعالى: (اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ):
فقدم المسند إليه لفظ الجلالة: "الله": حصرا وتوكيدا وجاء بالموصول مئنة من كون المعنى الذي اشتقت منه الصلة هو متعلق التعليل لألوهيته، عز وجل، على القول باشتقاق اسم: "الله": عز وجل، من معنى التأله وهو التعبد، ولا إشكال في القول بالاشتقاق بمعناه اللغوي الذي هو مقابلة اللفظ للمعنى الذي اشتق منه، كما أشار إلى ذلك بعض المحققين كابن القيم رحمه الله، فلم يرد قائله أن أسماء الله، عز وجل، حادثة بعد أن تكن، فلم يكن له، عز وجل، اسم حتى سماه العباد!، كما زعم ذلك من زعم من ضلال الجهمية نفاة الأسماء والصفات إجمالا كابن الثلجي وشيعته من الجهمية الأوائل.
وهذا مما يشهد لمن قال بمنع اشتقاق أسماء لم ترد لله، عز وجل، وإن كانت حسنى دالة على الكمال المطلق مشتقة من أوصاف ثابتة له في نصوص الوحي: قرآنا أو سنة، إذ الباب توقيفي محض فلا يسمى، عز وجل، إلا بما سمى به نفسه أو سماه به رسوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم.
فهو الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ:
فذلك من دلائل إيجاده المعجز إذ مبدء الخلق من ماء مهين، فتنكير الضعف للتعظيم، فمبدأ الخلق من ذلك الكائن المهين شديد الضعف الذي تستقذره النفس، وإن كان طاهرا، والخلق هنا بمعنى الإيجاد بقرينة ذكر مادة الخلق، وإن كان ذلك مستلزما للخلق الأول الذي هو: التقدير، فيأتي الخلق الثاني الذي هو الإيجاد تأويلا له على وجه من الدقة والإتقان هو مئنة من كمال حكمة وقدرة الرب جل وعلا.
ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً: على التراخي باعتبار نشوء قوة الإنسان من لدن كان مشيجا إلى أن صار رجلا شديدا أمرا يقع شيئا فشيئا فلا ترى آثاره الظاهرة إلا بعد مرور شهور وسنين، بل يتفاوت شدة وضعفا باختلاف أطوار النمو، ففي أطوار يكون نشاط الخلايا كبيرا كما في أطوار الانقسامات الخلوية الأولى أثناء الحمل، فيكبر الجنين سريعا ويتحول من مشيج إلى جسد كامل في نحو تسعة أشهر، ثم يستمر نموه حال صغره سريعا فيكون طور القوة الحيوية للخلايا في أوج نشاطه، فمعدل البناء أكبر بكثير من معدل الهدم، إذ المرحلة مرحلة تكوين، ولذلك يقول الأطباء بأن إصابة الأطفال بالأورام الخبيثة، عافانا الله وإياكم وأبناء المسلمين منها، يقولون بأنها مع عظم خطرها إذ تصيب جسدا غضا ضعيف المناعة إلا أن نسب الشفاء منها عالية فتصل إلى نحو 80 % أو أكثر لأن النشاط الخلوي للأطفال سريع مطرد في هذا الطور الإنشائي للجسم فيعوض الجسد الفاقد بسرعة وكفاءة فلو أزيل الورم وسلط العلاج الكيميائي والإشعاعي على موضع الورم، وهو مفسد للمحل إجمالا طيبه وخبيثه، إذ يصفه الأطباء بأنه غير اختياري فلا عقل له ليميز الخلية الصحيحة من الخلية السقيمة، وإنما يسلط على موضع الداء فيدمر كل خلاياه! صحيحة كانت أو فاسدة، فهو أشبه بالعمليات الانتحارية التي لا ينظر فيها إلى الخسائر البشرية، فهذه المفسدة العظيمة التي يظهر أثرها في الكبار لا يكون مثلها في الصغار، إذ معدل نمو خلاياهم كبير فالأجساد ما زالت بكرا بخلاف أجساد الكبار التي أنهكتها السنين، بمقتضى السنة الكونية الجارية، وهي التالية الذكر في الآية الكريمة:
ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً: سنة كونية جارية يظهر فيها كمال الرب وجلاله بإظهار نقصان العبد، فلا يجري على الله، عز وجل، ما يجري على البشر من الأغيار وما يلحق أبدانهم آخر الأمر من الفناء.
يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ: فذلك مئنة من كمال قدرته فالعموم محفوظ فهو قادر على خلق كل الممكنات.
ثم ذيل بوصف العلم المستلزم للحكمة: وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ: فلبس الخلق قدرة بلا حكمة فيخلق إذ شاء أن يخلق لمجرد إظهار قدرته كما يزعم نفاة تعليل أفعال الله، عز وجل، بالحكمة، بل له القدرة النافذة التي يكون بها الخلق والإيجاد في عالم الشهادة، والعلم الأول الذي به يكون تقدير الكائنات في الأزل ولما توجد بعد على نحو يظهر منه كمال حكمة وقدرة الرب، جل وعلا، فيأتي الخلق على نحو ما قدر فلا يزاد عليه ولا ينقص فذلك مئنة من الإتقان الدال على طلاقة القدرة، وبأتي جاريا على سنن الحكمة الربانية بوضعه في الموضع الذي يلائمه، فإن كان صالحا استعمل في الصلاح فضلا، وإن كان فاسدا استعمل في الفساد عدلا، فوضع الشيء في موضعه استجلابا لحكم آجلة، ولو تخلل ذلك مفاسد عارضة هو عين الحكمة الثابتة لله، عز وجل، من باب أولى على الوجه اللائق بجلاله.
والله أعلى وأعلم.
¥