تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

ـ[مهاجر]ــــــــ[08 - 12 - 2009, 09:04 ص]ـ

ومن قوله تعالى: (يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ (5) ذَلِكَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ)

فذلك من عنايته بخلقه، إذ يدبر أمرهم بأمره الكوني النافذ على وجه تخفى حكمته على كثير من خلقه فيستخرج بالابتلاء أجناس العبودية من خلقه، فبأمره الكوني: صلاح الدنيا، وبأمره الشرعي: صلاح الدين، له أمر التنفيذ على سنن الحكمة الكونية التي لا تدركها العقول، فلا يتعلق بها التكليف، فذلك من رحمته، عز وجل، إذ لا تكليف بما لا تتصوره العقول لتحكم عليه فإن كثيرا من حكم تدبير الكون تخفى علينا بل ربما وقفنا على ظاهرها دون الباطن فازددنا حيرة لا سيما في النوازل التي يبتلى فيها المؤمنون ويزلزلون زلزالا شديدا، فلا تحسبوه شرا لكم بل هو خير، وإن كان ظاهره الشر فهو شر في المقدور لا في القدر فحكمة الرب، جل وعلا، من اللطف والخفاء بمكان، فلا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار وهو اللطيف فيخفى عن الأنظار، الخبير فيدرك دقائق الأسرار.

وله أمر التشريع على سنن الحكمة الشرعية التي تدرك العقول علل بعضها فتقيس عليه، دون بعض فتنقاد له على حد التسليم، فهو مما تطيقه، فتكلف به، رحمة من الرب، جل وعلا، فلا يكلفها ما لا تطيق من تصديق محال أو امتثال شاق غير معتاد، فإن هذه الملة قد جاءت بأصدق الأخبار وأعدل الأحكام فلا تجد الفطر السوية نفورا من أخبارها الغيبية فليس فيها ما تحيله وإن حارت في كيفه، فذلك لازم الابتلاء ليتميز المؤمن المصدق من الكافر المكذب، ولا تجد النفوس عناء من أحكامها التكليفية بل إن عرضت المشقة فتبعا لا أصلا، فأمره، عز وجل، قد استغرق الجنسين: الكوني النافذ والشرعي الحاكم.

والله أعلى وأعلم.

ـ[مهاجر]ــــــــ[09 - 12 - 2009, 08:45 ص]ـ

ومن قوله تعالى: (الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسَانِ مِنْ طِينٍ):

فأحسن كل شيء تقديره وتنفيذه فلكل كائن ولكل عضو بل ولكل خلية ما يناسبها من الخلق فخلية الأعصاب لها من التركيب ما يناسب وظيفتها من نقل السيال العصبي، والخلية العضلية لها ما يناسب وظائفها من الانقباض والانبساط، وخلابا المخ لا تتجدد إذ هي مستودع المعلومات، بينما الخلايا الجذعية تنقسم باستمرار في ثلاث طبقات جينية لتعطي أكثر من 200 نمط خلوي موجود في الجسم، والخلية التناسلية تنقسم اختزالا، والخلية الجسدية تنقسم تكرارا، وعلم الأنسجة يدرس تلك التراكيب المتباينة، وعلم وظائف الأعضاء يدرس ميكانيكية عمل هذه التراكيب فيظهر منهما مدى التلاؤم بين تركيب الأنسجة ووظائفها فلكلٍ خَلْقُه الذي يناسبه، والإنسان يضع قدمه حيث لا تنفع عينه، ويضع عينه حيث لا تنفع قدمه، وتأمل ذلك التناسب يدل على كلا الدلالتين: دلالة الإيجاد ودلالة العناية، فتنوع الإيجاد عناية بالإنسان بتلبية كافة احتياجاته الحيوية، وذلك مئنة من كمال خلق الإنسان وإتقان صنعته، وإتقان الصنعة، كما تقدم مرارا، مئنة من إتقان الصانع الحكيم الذي أتقن صنعة كل شيء، فتقديره في عالم الغيب وتأويله في عالم الشهادة قد جاء على أكمل الوجوه، وقد تتبع ابن القيم، رحمه الله، كثيرا من أوجه التناسب بين الخلق والوظيفة في كتابه "مفتاح دار السعادة".

وقد ابتدأ غاية خلق الإنسان من طين، وإن لم تبق عين الطين بتحوله إلى لحم ودم وعصب وعظم ........ إلخ، فأصله طيني، ولا يلزم من ذلك أن يكون طينيا، وإن بقيت في خلقته أثر الطين، فعناصر الجسد الكيميائية هي نفسها عناصر الأرض الطينية، فالإنسان من طين وإن لم يكن في حقيقته المشاهدة في الخارج: طينا، كما يقال في أي مصنوع أرضي إنه مصنوع من كذا وكذا، وإن لم يكن في عينه المشاهدة أثر لذلك الأصل، فبعض الملبوسات تصنع من بعض المشتقات البترولية، مع أنها لم تعد بترولا، بل انقلبت أعيانها، وهي مواد خام، إلى أعيان أخر يحصل الانتفاع بها، وذلك مئنة من إتقان الصنعة، وهو مئنة من قدرة الصانع على تشكيل مواده الخام واستهلاك أعيانها توسلا إلى إنتاج صور أخرى يمكن الانتفاع بها، ولله المثل الأعلى، فإن جواهر العالم حادثة، يفني الرب، جل وعلا، منها ما شاء ليستخرج منه أعيانا أخر، فيفني النطفة ليستخرج العلقة، ويفتي العلقة ليستخرج المضغة، وإن بقي في العلقة أثر من النطفة، وفي المضغة أثر من العلقة، يدل على أصلها إمعانا في بيان القدرة الربانية، فليس الأمر أعراضا تتوالى على جوهر واحد قديم كما ادعى الفلاسفة القائلون بقدم العالم، بل هي جواهر تستهلك ليظهر منها جواهر جديدة تباينها في الماهية وإن كان فيها أثر يدل على أصلها الأول، فجسد الإنسان غير الطين ماهية، ولكنه يرجع إليه أصلا، فأثر الطين ظاهر في تركيبه، وإن لم يظهر في هيئته.

والله أعلى وأعلم.

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير