ـ[مهاجر]ــــــــ[10 - 12 - 2009, 09:00 ص]ـ
ومن قوله تعالى: (ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ):
فذلك من الجعل الكوني، فهو من جنس الماء المهين الذي قد سل من الجسد كله، فإن الخلية التناسلية هي مستودع صفات الإنسان، فكأنها أنموذج مصغر منه يلتقي مع مشيج الزوج فيكون المولود لأيهما غلب، وفي وصف الماء بالمهانة، إشارة إلى ضعف المخلوق الذي خلق مما يأنف الإنسان علوقه بجسده أو ثوبه فيبادر بغسله وإن كان طاهرا في نفسه، على الراجح من أقوال أهل العلم، وفيه أيضا مئنة من قدرة الرب، جل وعلا، الذي سوى هذا الإنسان على هذا الوجه من الكمال وهو في أصله نطفة حقيرة الجرم، مهينة القدر، فذلك جار على ما تقدم من بيان أوجه الإعجاز في دلالة إيجاد الكائن من أصل يفنى ليتولد من فنائه خلق كامل.
ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ: فسوى جسده بتقلبه في الأطوار المتتالية التي جاء بيانها في مواضع أخر من الكتاب العزيز، على ما اطرد من إجمال التنزيل في مواضع وبيانه في مواضع أخر، فما أجمل في موضع فصل في آخر فتجمع تلك المواضع لتكتمل صورة الاستدلال، فهي صورة متعددة الأجزاء لا بد من إعمال النظر في كل أجزائها على ذات الحد من العناية والإنصاف فلا ينظر إلى جزء ويهمل آخر، على ما اطرد في طرائق أهل الأهواء من أصحاب الملل والنحل في الاستشهاد بما ينصر ظاهره، بل متشابهه، مقالتهم، فإن ظاهر التنزيل لا يدل على معنى باطل إذ لا يدرك معناه إلا بملاحظة سياقه ولا يمكن أن يدل سياق الوحي على معنى باطل، وإنما يأتي البطلان من مقدمات عقلية باطلة، تستقطع كلمات التنزيل من سياقها لتشهد على صحتها شهادة المكره، فلا يخلو الاستدلال من لي بل كسر لأعناق النصوص إرادة تطويعها لتوافق الشبهة، فيصير المحكم متشابها بحمله على غير معناه، ويصير المتشابه محكما تكلفا لنوع دليل ولو متعسف فلا بد من دليل لصحة المقالة ولو اخترع اختراعا.
ثم نفخ فيه من روحه التي خلقها وأضافها إليه إضافة مخلوق إلى خالقه تشريفا لقدرها فمن جنس الروح المخلوق نفخ الرب، جل وعلا، في جسد المولود، وذلك من آكد صور الإيجاد المعجز إذ الروح مادة الحياة فإذا نفخت في الجسد دبت فيه الحياة والحركة والإحساس بعد أن كان ميتا ساكنا لا شعور له.
وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ: فذلك إطناب في بيان دلالة الإيجاد بخلق آلات الإدراك في الإنسان من سمع وبصر يجمع الصور من الخارج وفؤاد يختزنها فهو مستودع التصورات التي تصدر عنها الأحكام.
قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ: فالشكر لازم تلك المنة الربانية فجاء التنبيه على عجز العباد وتقصيرهم عن أداء شكرها.
والله أعلى وأعلم.
ـ[مهاجر]ــــــــ[13 - 12 - 2009, 08:35 ص]ـ
ومن قوله تعالى: (أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ أَفَلَا يَسْمَعُونَ):
فضمن فعل الهداية معنى البيان، وهو بيان مشاهد، تحصل به العظة والعبرة إذ فيه من دلائل القدرة النافذة إهلاك الأمم وإبقاء مساكنها علامات عليها وما ذاك إلا عناية بالرسل عليهم السلام وأتباعهم من المؤمنين، على حد قوله تعالى: (حَتَّى إِذَا اسْتَيْئَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ وَلَا يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ) ثم جاء التذييل ليشمل البيان البصر والسمع، كما أشار إلى ذلك صاحب "التحرير والتنوير" رحمه الله، فاجتمع في السياق دلالتا البصر والسمع. وعلى ما اطرد في التنزيل: ذيلت الآية الكونية بالآية الشرعية، فإن في تلك الآية الكونية لعبرة تحمل الناظر فيها على التزام الآيات الشرعية، وجاء الاستفهام الإنكاري توبيخا لهم إذ تنوعت دلالة السمع والبصر مع إعراضهم عنها، فبطل عمل الصفة، وإن كانت الآلة صحيحة يتعلق بها التكليف فسمعهم كلا سمع، إذ لم ينتفعوا به وإن بلغتهم الحجة مرئية مسموعة على حد التواتر، فمن لم ينتفع بها فقد نزل نفسه منزلة البهيم الذي يسمع ولا يفهم، أو الجماد الذي لا يسمع ابتداء.
أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْمَاءَ إِلَى الْأَرْضِ الْجُرُزِ فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعَامُهُمْ وَأَنْفُسُهُمْ أَفَلَا يُبْصِرُونَ:
فذلك من الآيات المنظورة، فالرب، جل وعلا، يسقي جنس الأرض التي انقطع زرعها بجنس الماء الذي هو مادة الحياة فقد أودع الله، عز وجل، فيه قوة الإنبات فيباشر البذرة الميتة فتدب فيها الحياة بإذن الرب القدير، عز وجل، فذلك مئنة من كمال قدرته الإيجادية، على خلق الحياة من الموت عناية بهم وبأنعامهم، فجمعت الآية الدلالتين: الإيجاد والعناية ثم جاء الاستفهام ملائما لصدر الآية، فوبخهم على عدم إعمال نظرهم في تلك الآية المشهودة، فلهم بصر الآلة الصحيحة بلا انتفاع بتدبر أو نظر في الآيات الكونية المبثوثة فهو بصر كلا بصر حتى صح السؤال عنه استنكارا توبيخيا على عدم إعمال البصر مع صحة الآلة أو إبطاليا له بإنزاله منزلة عدم البصر، فهو، كما تقدم، بصر كلا بصر!.
والله أعلى وأعلم.
¥