تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

قذلك من أدلة الآفاق على ربوبية الإيجاد على ما اطرد مرارا من كون خلق المتضادات مئنة من كمال الربوبية، فخلق العذب والمالح، واختص العذب بأن شرابه سائغ، فنص على أوصافه فهو: الفرات، السائغ الشراب، فالإطناب حسن في معرض بيان دلائل ربوبية العناية، فقد انتقل من إيجاد المتباينات إلى بيان أوجه الانتفاع بها، فخص العذب بالشراب، وعم الانتفاع بالأكل من كليهما، فـ: "وَمِنْ كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْمًا طَرِيًّا"، ولا مفهوم للقيد إذ لا مفهوم للوصف في معرض الامتنان، فغايته أن يكون ذكر فرد من أفراد عموم المأكولات البحرية فلا يخصصه، كما قيل في حديث الخصائص وفيه: "وَجُعِلَتْ تُرْبَتُهَا لَنَا طَهُورًا": فقيد التربة عند غير الحنابلة، رحمهم الله، لا مفهوم له، فقد خرج مخرج الغالب إذ غالب ما على سطح الأرض تراب، فكذلك غالب ما يستخرج من الماء من جنس المأكولات هو السمك، وهو لحم طري، فلا يعني ذلك قصر المنة عليه بل تعم كل مأكول بحري طريا كان أو يابسا، ما لم يرد دليل ناقل له عن أصل الإباحة فتثبت حرمته من وجه آخر كضرر أو نحوه، فيلزم الناقل عن الأصل الدليل، وذلك من أوجه التيسير في هذه الملة الحنيفية السمحة، فالأصل في الأعيان والعادات والمعاملات: الإباحة حتى يرد الدليل الحاظر فلا ينهى عن المباح احتياطا، إذ ذلك تحجير لما وسعه الشارع، عز وجل، من عموم الإباحة في نحو قوله تعالى: (هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا)، فلا تخصص إلا بدليل ناقل يخرج العين أو العادة أو المعاملة من حد الإباحة إلى حد الحظر، أو وصف ظاهر معتبر يضاهي وصفا آخر اعتبره الشارع، عز وجل، علة تحريم أصل منصوص عليه، فيلحق به الفرع الحادث، كأي مسكر حادث فإن حكم التحريم في هذا الباب قد علق على وصف الإسكار، وهو وصف ظاهر مؤثر يسهل ضبطه، فيصح إلحاق الفرع بالأصل لأجله.

والشاهد أنه لا تخصيص للمنة إلا بما يقدح في حق الرب، جل وعلا، من كمال توحيده والتأله له، ولذلك خصص عموم: "وَجُعِلَتْ لَنَا الْأَرْضُ كُلُّهَا مَسْجِدًا"، بالنهي عن الصلاة في المقبرة سدا لذريعة الغلو في المقبورين إن كانوا من المعظمين إذ ذلك مما يقدح في كمال توحيد فاعله فهو ذريعة إلى الغلو في المقبور، وذلك أول طريق الشرك الذي سارت فيه الأمم من لدن قوم نوح إلى من غلا في المسيح عليه السلام، وعلى منوالهم نسج غلاة هذه الأمة في الأئمة والمشايخ.

وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا: فذلك من نفعه الباطن، فتستخرج منه الحلى التي يتمتع بها الإنسان زينة فمن البحر يستخرج ما يستصلح به بدنه من جنس المطعوم، ومنه يستخرج ما يتزين به من جنس الملبوس.

وَتَرَى الْفُلْكَ فِيهِ مَوَاخِرَ: تشق الماء، وذلك إشارة إلى لازم ذلك من نعمة الريح التي تسير الفلك في البحر بإذن الرب، جل وعلا، فللريح كلمات تكوينية يوحي بها الرب، جل وعلا، إلى ملك الريح فيسير بها السحاب في السماء والأفلاك في البحار، وتحمل حب اللقاح إلى مياسم الأزهار لتنتج ثمرا طيبا تغتذي به الأبدان، فتلك المنظومة الكونية المحكمة تسير وفق تدبير الرب، جل وعلا، الأزلي، فما نراه من آثار رحمة الرب، جل وعلا، هو تأويل مقدوراته الأزلية التي قدرها عناية بالنوع الإنساني، فذلك من كمال استخلافه، جل وعلا، لبني آدم، إذ سخر لهم قوى الكون النافعة ليستعينوا بها على إقامة أمره الشرعي، فلكل نعمة كونية تكليف شرعي، وإن شئت فقل لجنس النعم الكونية جنس التكليف الشرعي، إذ المقابلة بين الجنسين أدق من المقابلة بين الأفراد، فلو قدر أن لكل نعمة كونية تكليفا شرعيا، ما استطاع عبد أن يقوم بما كلف به، إذ تكليف الآدمي بأداء شكر نعم الرب، جل وعلا، تكليف بما لا يطاق، فـ: (وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ)، فلو قدر أن لكل نعمة من جنس النعم التي لا تحصى تكليفا، لكان التكليف مما لا يحصى، ولا طاقة لبشر بذلك، فمن رحمة الرب، جل وعلا، أن رفع الحرج عنا، بل تفضل علينا فلم يحملنا ما لا نطيق، بل لم يحملنا ما نطيق، فالتكليف قد جاء بأدنى مما نطيق، فجاء التذييل بالتكليف الشرعي: وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ: بالقلب

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير