والثاني: أنها آثار خطاهم إلى الطاعات أو المعاصي، على حد قوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: "يا بني سلمة دياركم تكتب آثاركم". أي: الزموا دياركم تكتب آثاركم في السعي إلى صلاة الجماعة، على حد الترغيب بحذف الشرط الذي جزم به جواب الطلب انتقالا إلى محط الفائدة، فذلك أبلغ في الحض على الفعل بتعجيل المسرة الكائنة من امتثال الأمر به.
ثم رجح، رحمه الله، عدم المنافاة بينهما إذ القول الثاني دال على الأول بدلالة الفحوى أو قياس الأولى، فكتابة أثر الخطى إلى الطاعة أو المعصية يلزم منها من باب أولى كتابة ما هو أعظم أثرا من: السنن التي يحييها المكلف حسنة كانت أو سيئة، فالقول الثاني: دال على القول الأول، والقول الأول: متضمن للقول الثاني، فالاختلاف بينهما: اختلاف تنوع لا تضاد، إذ لا يعارض أحدهما الآخر، فالجمع بينهما ممكن متاح على التفصيل المتقدم.
فعمت الكتابة: ما فعلوه في حياتهم وما أثر عنهم بعد مماتهم، وذلك أبلغ في الترغيب في فعل الحسنات وإحياء السنن، والترهيب من فعل السيئات والتصدي لإحداثها أو إحيائها كما يقع من أهل البدع الذين يحدثون من ضروب المقالات ما يقدح في الملل، وأهل الفسوق الذين يحدثون من ضروب الفجور ما يقدح في الشرائع، فأولئك: يفسدون على المكلف قواه العلمية الباطنة، وهؤلاء يفسدون عليه قواه العملية الظاهرة.
فتلك كتابة الإحاطة التي تتعلق بها حكمة الرب جل وعلا.
ثم ذيل بكتابة التقدير الأزلي المسطور في اللوح المحفوظ قبل خلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة، فبها تتعلق قدرة الرب، جل وعلا، على إيجاد المقدورات وفق ما قدر أزلا، فيأتي الموجود في عالم الشهادة مطابقا للمعدوم في عالم الغيب، المسطور في اللوح المحفوظ ولما يأت تأويله بعد.
وإلى هذا النوع من الكتابة الكونية أشار ابن القيم، رحمه الله، في "شفاء العليل" بقوله:
"والمقصود أن قوله وكل شيء أحصيناه في إمام مبين وهو اللوح المحفوظ وهو أم الكتاب وهو الذكر الذي كتب فيه كل شيء يتضمن كتابة أعمال العباد قبل أن يعملوها والإحصاء في الكتاب يتضمن علمه بها وحفظها لها والإحاطة بعددها وإثباتها فيه". اهـ
والله أعلى وأعلم.
ـ[مهاجر]ــــــــ[04 - 01 - 2010, 09:10 ص]ـ
وَمَا لِيَ لَا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (22) أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آَلِهَةً إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمَنُ بِضُرٍّ لَا تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا وَلَا يُنْقِذُونِ
استفهام فيه الإنكار عليهم والتلطف معهم في آن واحد، وذلك أبلغ ما يكون في استمالة المدعو وتأليف قلبه. فأورده كما يقول أبو السعود، رحمه الله، مورد النصح لنفسه، فهو لا يرضى لهم إلا ما رضيه لنفسه من الكرامة.
وعلق حق العبودية على عطاء الربوبية الذي دل عليه الفعل: "فطرني"، فذلك من مقتضيات ربوبيته عز وجل، فصار الإنكار متوجها إلى من عبد غير خالقه، فلا منة أعظم من منة الإيجاد من العدم، ولذلك كان الوالدان من أعظم الناس حقا على ولدهما لأنهما سبب وجوده، فكيف بحق المسبِب الذي خلق السبب، وأجراه باستيفاء شروطه وانتفاء موانعه؟!!.
وإليه ترجعون: حصر بتقديم ما حقه التأخير، وفيه إشارة إلى ربوبية الملك، فكل الخلق إليه راجعون: رجوع العبيد إلى سيدهم المطاع، فـ: لا وزر يومئذ منه، فالمآل والمستقر إليه.
أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آَلِهَةً إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمَنُ بِضُرٍّ لَا تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا وَلَا يُنْقِذُونِ:
إنكار آخر، وفي الاتخاذ مئنة من التكلف والافتعال، فلا دليل من نقل صحيح أو عقل صريح على صحة عبادتها، إذ ليس لها من أوصاف الربوبية شيء، فـ: "إن يردن الرحمن بضر": أي ضر، فهو نكرة في سياق الشرط تفيد العموم. وخص الضر بالذكر دون النفع لكون دفعه أو رفعه مطلوب العقلاء الأول، فاستدفاع الهموم والآلام: ضرورة عقلية لا يجحدها إلا مختل أو مسفسط.
والسياق أيضا: سياق زجر فناسب أن يذكر فيه متعلق صفات الجلال، فإيقاع الضر عقوبة أو امتحانا: من صفات جلاله، بخلاف جلب النفع فهو من صفات جماله، والوعيد يناسبه الجلال لا الجمال.
لا تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا وَلَا يُنْقِذُونِ: نفي تسلط على المصدر الكامن في الفعل: "تغن" فأفاد العموم، فضلا عن ورود النكرة في سياق النفي فأفادت هي الأخرى العموم، فالعموم منتف من جهة العامل ومعموله، ونفي الشفاعة هنا على طريقة: السالبة لا تقتضي وجود الموضوع فلا تغني عني شفاعتهم شيئا إن كان لهم شفاعة، فكيف ولا شفاعة لهم أصلا؟!!.
ولا ينقذون: تكرر النفي توكيدا، واستوفت الآية أوجه القسمة العقلية، فلا يملكون إنقاذي، ولا شفاعة لهم عند من يملك ذلك، فكيف يصح في الأذهان اتخاذ تلك الأرباب المعطلة عن الفعل آلهة تعبد من دون الله، عز وجل، الفعال القادر على إيصال النفع لعباده فضلا، والضر إليهم عدلا.
ولذلك قال بعدها:
إِنِّي إِذًا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ: إن فعلت ذلك وأكد بـ: "إن" واسمية الجملة قبل دخول الناسخ عليها، و "إذا"، واللام المزحلقة، واستعار الظرفية العينية في: "في" للظرفية المعنوية، فكأن الضلال قد صار وعاء احتواه إن فعل ذلك، ووصفه مبالغة بـ: "مبين" بمعنى: بين، على وزان: فعيل بمعنى: مفعول.
ولما تقرر بطلان ربوبيتهم لعجزهم الفاضح، صرح بلا مداهنة
إِنِّي آَمَنْتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ:
فعلق الإيمان بوصف الربوبية: "بربكم" طردا لثنائية الألوهية فرعا على الربوبية، فإذا صح الأصل صح الفرع، وإذا صحت المقدمة صحت النتيجة.
والله أعلى وأعلم.
¥