تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ).

ومن أحق بوصف العظمة البشرية الكاملة من النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم الذي جبل تكوينا على أعظم الخلال فهو بشهادة أعدائه: الصادق الأمين، المترفع عن كل دني الطالب لكل علي، المجيب لكل دعوة إلى المعالي، فلما دعي إلى حلف الفضول أجاب، المعرض عن كل دعوة إلى السفاسف، على حد ما روى ابن أبي شيبة، رحمه الله، في مصنفه: "إن الله جواد يحب الجواد، ويحب معالي الأخلاق ويكره سفسافها"، فهو رجل عظيم قبل البعثة، فلما ألقي إليه الروح من أمر ربه، زاده التكليف الشرعي، وهذا وجه كون الإذن شرعيا في الآية، زاده عظمة على عظمة الجبلة الكونية على فضائل الأخلاق وكمال الأحوال فصادفت النبوة بمقتضى حكمة الرب، جل وعلا، المحل الأمثل فـ: (اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ)، فهذا حد الاصطفاء، والرب، جل وعلا، أحكم الحاكمين لا يضع مادة الهداية إلا في محل صالح يقبل أثرها فتنبت فيه شجرة التوحيد مادة صلاح القلوب والأبدان، فكيف بنعمة النبوة، أيلقيها في قلب لا ينتفع بها لفساد المحل كقلب أبي جهل، أو قلب صالح لكنه لا يقوى على حملها، مهما بلغ من مراتب الصديقية كقلب أبي بكر رضي الله عنه، فحكمته، عز وجل، اقتضت أن توضع كل مادة في المحل الملائم لها، فذلك أثر اسمه الحكيم، تبارك وتعالى.

فيضع مادة النبوة في قلوب محمد الأمين وإبراهيم الخليل وموسى الكليم وعيسى المسيح ونوح، عليهم السلام، بل يفاضل بينهم في مقدارها فيصطفي الخليلان، بل يقدم الابن على الأب، فمحمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم أحب خلقه إليه، وذلك التفاوت، وإن ثبت لكلهم من أصول الفضيلة والعصمة ما نالوا أشرف منازل النبوات فهم أولوا العزم، ذلك التفاوت مئنة، كما تقدم، من حكمة الرب، جل وعلا، في وضع كلٍ في الموضع الملائم له، فلا يصلح غير الكليم لمنصب زعامة أنبياء بني إسرائيل، ولا يصلح غير الصادق الأمين لمنصب زعامة سائر النبيين، فلكل قدره الرفيع، وإن تفاوتت الأقدار بتفاوت الاصطفاء الكوني، والتكليف الشرعي، فليس رسالة محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم العامة كرسالة موسى عليه السلام الخاصة، فلزم من ذلك تقدم الأول على الثاني على وجه لا يقع به انتقاص للمفضول، بل الأمر دائر بين فاضل شريف اختصه الرب، جل وعلا، بكلامه، وأفضل اختصه الرب، جل وعلا، بالخلة العظمى.

ويضع مادة الصديقية العظمى في قلب أبي بكر، رضي الله عنه، فهو صديق الأمة ومقدمها، بل صديق الأمم ومقدمها بعد الأنبياء والمرسلين فلا يصلح محل غير محله لمقام: "مَنْ كانَ يعبد محمدًا فإن محمدًا قد مات، ومن كان يعبد الله فإن الله حَيّ لا يموت"، ولا يصلح محل غير محله ليوم الردة، فالقلوب أوعية تحتمل من مادة الإيمان والشجاعة أقدارا متفاوتة فلم يقو قلب عمر أو عثمان أو علي، وهم السادة المقدمون بعده، لم تقو محالهم على احتمال ما وقر في قلب الصديق، رضي الله عنه، فما سبقهم بصلاة أو صيام، وإنما سبقهم لشيء وقر في قلبه هو مادة الصديقية آنفة الذكر التي وضعها الرب، عز وجل، في قلبه، إذ نظر في قلوب العباد فلم يجد محلا أشرف من قلب الصديق، بعد محال الأنبياء فتلك مرتبة لا ينالها صديق أو ولي، فلم يجد محلا أشرف من قلبه ليضع فيه تلك المادة الصديقية النفيسة.

وفي المقابل يضع مادة الكفر والجهل في قلب أبي جهل، حتى استحق أبو الحكم عمرو بن هشام، ضد ما وصف به من الحكمة لملائمة محله لضدها ملائمة تامة، فاقتضت حكمة الرب، جل وعلا، أن توضع مادة الجهل والكفر بل الطغيان الذي بوأه منصب فرعون هذه الأمة بجدارة! في قلبه، فلو وضعت فيه النبوة أو الصديقية لكان ذلك قدحا في اسم ووصف الحكمة الثابت للرب، جل وعلا، على أكمل وجه لائق بجلاله، فالقلوب، كما تقدم، أوعية تحتمل من التصورات العلمية والإرادات العملية أقدارا متفاوتة يتمايز بها البشر تمايزا لا يحصي قدره إلا الله، عز وجل، فالصور قد تتماثل، ولكن الحقائق تتباين بتباين أعيانها، فمن يحصي أقدار البشر عظما أو حقرا إلا رب البشر الذي خلقهم وجبلهم على المعالي بفضله أو الدنايا بعدله، وأمد كلا بأسبابه، لحكمة تعجز العقول عن دركها، فكل ميسر لما خلق له.

ثم جاء التذييل في معرض الإطناب في بيان هذه النعمة السابغة، فالنبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم السراج المنير فينتفع الناس بنوره دون أن ينالهم ما قد ينالهم من وهج السراج الوهاج، فالانتفاع به خالص من شوائب الوهج، ومن نظر في شريعته بعين الإنصاف علم ما فيها من اليسر الذي يرفع عن المكلفين كل حرج، فهي أصدق الطرائق الخبرية وأعدل الطرائق الحكمية وبسط المقال في وسطيتها في العلوم والأعمال والسياسات والأحوال أمر لا يفي به المداد.

والله أعلى وأعلم.

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير