تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

ـ[مهاجر]ــــــــ[27 - 01 - 2010, 09:09 ص]ـ

ومن قوله تعالى في ذكر خبر إلياسين عليه السلام مع قومه:

(إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَلَا تَتَّقُونَ (124) أَتَدْعُونَ بَعْلًا وَتَذَرُونَ أَحْسَنَ الْخَالِقِينَ (125) اللَّهَ رَبَّكُمْ وَرَبَّ آَبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ)

فصدر مقالته بالأمر بالتقوى تألها لله، عز وجل، وحده، ثم ذيل ذلك بإبطال دعواهم الربوبية في معبوديهم، فبعل لا يملك خلقا ولا تدبيرا تعريضا به بالتصريح بوصف الرب، جل وعلا، أحسن الخالقين، إن حمل الخلق على الإيجاد والتكوين، فخلقه إيجاد من عدم بخلاف خلق غيره فإنه تصيير صورةٍ صورةً أخرى فلا يملكون استحداث المادة من العدم، ولا يملكون إفنائها إلا بمباشرة الأسباب الكونية الموضوعة لذلك، فهم مفتقرون إلى الأسباب دوما لتحقيق مراداتهم، وذلك عين الافتقار الذاتي الذي يتنزه عنه رب الأسباب، جل وعلا، فهو خالقها ومجريها فكيف يفتقر إليها، وإن حمل الخلق على التقدير فهو داخل في حد دلالة العناية إذ قدر الله، عز وجل، في الأرض أقواتها الطينية، وقدر في السماء أحوالها العلوية، فحفظها بما سن من الأحكام الكونية، وجعلها سقفا محفوظا للكائنات يأتيهم من مددها الكوني من غيث السحاب المسخر ما يباشر الأرض الميتة فتنبت بالشجر المثمر بإذن ربها المكون، ويأتيهم من مددها الشرعي وحي النبوات المستصلح لأرض القلب بأجناس العلوم والإرادات النافعة التي تثمر في الجوارح أقوالا وأعمالا صالحة، فعناية الرب، جل وعلا، عناية عامة بالبدن تنمية وبالقلب تزكية، فكيف يسوى من هذا وصفه من حسن الخلق الإيجادي والتقديري، ببعل الذي لا يملك لنفسه إيجادا ولا تدبيرا بل هو مفتقر إلى من ينحته وينظفه ويطيبه ........ إلخ فالطفل الوليد أكمل منه، إذ مع كونه مفتقرا إلى من ينظفه إلا أن فيه حياة حساسة متحركة تخرجه من حد الجمادات إلى حد الأحياء، بل تثبت له الحياة كونا بنفخ الروح بعد أربعة أشهر، وتثبت له الحياة في بعض الأحكام كالصلاة عليه إن مات بعد نفخ الروح على خلاف في استهلاله أو عدمه، وتثبت له الهبة والإرث على خلاف في ذلك، أيضا، فهو من هذا الوجه أكمل من بعل الذي لا يملك قبول هبة ولا ردها، ولا ينوب عنه في قبولها غيره، إذ الحي لا ينوب عن جماد منصوب، فكيف إن كان في نظر معظميه ربا مألوها، كيف ينوب العبد عن ربه في استيفاء حقه لعجز الرب أو عدم عقله؟!

ثم جاء البيان إطنابا في وصف الرب، جل وعلا، بالكمال، فهو ربهم ورب آبائهم الأولين، فاستوفى بهذا التقسيم ربوبية أعيانهم الحاضرة والأعيان التي تولدوا منها، فهي ربوبية عامة تشمل الأعيان خلقا والأحوال تدبيرا فله، جل وعلا، تمام المِلك للأعيان، وتمام المُلك للأحوال، كما سبقت الإشارة إلى ذلك مرارا، فله عليكم وعلى آبائكم منة الإيجاد والإعداد والإمداد، فأوجدكم من العدم وأعد آلاتكم لقبول آثار النعم الكونية فآلات البدن تهضم الغذاء وتستخلص نفعه وتطرد ضره، والروح قد أعدت لقبول آثار النعمة الشرعية فتقبل إن أراد الرب، جل وعلا، لها الهداية التوفيقية بعد حصول الهداية البيانية، آثار الوحي، فعناية الرب، جل وعلا، بالظاهر والباطن، بالبدن والروح، بالمحسوس والمعقول: أمر ظاهر لا ينكره إلا جاحد يتقلب في آلاء الرب، جل وعلا، ليل ونهار، ثم هو يبارزه بالجحود والنكران، ولو فعلها مع آدمي لطرده من ملكه فلم يمهله، ولكن الرب، جل وعلا، بما اتصف به من الحلم عن العاصين ليرجعوا، والصبر على المصرين ليستدرجوا، أمهل العباد، بل أمهل من هو شر منهم، من مقدم الشياطين إبليس إلى يوم ينظرون، فذلك من عدل الرب، جل وعلا، إذ كانت له حسنات ماضية أبطلها بكفر الجحود والاستكبار عن السجود لآدم عليه السلام، فكان من كمال العدل أن يوفاها معجلة ليكون ممن لا خلاق لهم في الآخرة، وقل مثل ذلك في كل كافر أمهله الله، عز وجل، فإنه يمهله برحمة الرحمن العامة، التي كتبها على نفسه، فلم يمنعه حقا كان له، بل أعطاه ما ليس له ابتداء من النعم الكونية، فوسع عليه في أمر الدنيا، وأرشده إلى أمر الدين بما بعث إليه من النبيين، فاكتملت نعمته الكونية عليه، فكيف يصح له احتجاج عليه بأنه ظلمه أو بخسه حقه!، وهل له حق ابتداء عنده ليبخسه إياه، ولو شاء لكان عدما فلم يخلق، فمنة الرب، جل وعلا، ثابتة في حقه وحق غيره من إيجاد من العدم وعناية بالروح والبدن، بل إن ما يجده الكافر أو العاصي من ألم روحاني وإن بلغ غاية اللذة البدنية، هو من عناية الرب، جل وعلا، به، إذ هو العرض للمرض الذي يحمل صاحبه على طلب الدواء فيكون نفعا له من هذا الوجه، وإن كان ألما ضاغطا منغصا يعرفه كل من باشر المعصية ثم أقلعت عنه سكرتها اللحظية فتركته كئيبا منقبض النفس مستوحشا من الرب ومن الخلق، فإن بادر بالتوبة تلقاه الرب، جل وعلا، من بعيد، وسعى إليه بأسرع مما يسعى إليه، وأقبل عليه إقبال الشاكر للقليل، الساتر للقبيح، فغفر له ولا يبالي، بل خلع عليه خلعة الود فعاد أحب إليه من ذي قبل!، فذلك من معاني اسمه الودود، فهو يود التائب بل ذله وإنكساره بين يديه أحب إليه من طاعة مع حظ نفس يعتد بها صاحبها فيفرح فرح البطر لا الحامد الشاكر الذي يستشعر فضل الرب، جل وعلا، عليه في كل وقت، فله في كل وقت نعمة عليه سابغة، ومن أسدى إليك معروفا منقطعا في الدنيا فإنك تحدث به القريب والبعيد في معرض الثناء والتقدير، فكيف بمن معروفه دائم لا ينقطع ألا يكون أولى بالحمد قولا والشكر فعلا مواطئا لقول اللسان مؤولا لما يقع في القلب من إرادات الخير تأويلا يحصل به البيان، فهو حقيقة ما تولد في القلب من مادة الصلاح قد زكاه الرب، جل وعلا، ونماه فأثمر، كما تقدم، في الجوارح صالحات تصح الأديان بمباشرتها وتصح الأبدان ببركتها.

فهل لبعل الماضي، أو للبعال المعاصرة من ذلك شيء سواء أكانت بعالا مادية أو معنوية، وهي بوصف البغال أحق وأولى، بل البغال أصح طريقة منها إذ هي على الفطرة التوحيدية الأولى لا تتحول عنها.

والله أعلى وأعلم.

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير