ـ[مهاجر]ــــــــ[04 - 02 - 2010, 08:44 ص]ـ
وَوَهَبْنَا لِدَاوُودَ سُلَيْمَانَ نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ:
فذلك من دلالة العناية الخاصة بداود عليه السلام فبعد أن أتاه الله، عز وجل، الملك والنبوة، أسبغ عليه النعمة بالنبي الملك سليمان عليه السلام وريث النبوة وحامل علومها عن أبيه برسم الملك، ولا أعدل من الملك المقرون بالنبوة، وهو معنى حاصل في كل ملك التزم أصحابه سياسة الشرع لا سياسة الجور كما يقع في أغلب الممالك الأرضية التي أقيم الملك فيها برسم الجبر والقهر فاستلزم ذلك من سن القوانين والتراتيب ما يقع به الظلم العام والخاص استبقاء لهذا الملك، ولو بالسيف القاهر الذي يخضع به الموافق والمخالف، وذلك فرقان بين سيف النبوة العادل وسيف الملك الظالم، فإن الأول رحمة بالمخالف والموافق به يصان الكتاب الهادي وتزال صروح الطغيان، والثاني سيف جور يستحل من سفك الدماء وغضب الأموال بالمكوس الظالمة وانتهاك الحرمات العامة والخاصة، يستحل من ذلك ما يوجب النقمة العامة، ولذلك قرنت النبوة بالرحمة في حديث: "أول هذا الأمر نبوة ورحمة"، بخلاف الملك فإنه ملك جبري لا رحمة فيه، بل فتنة وفساد في الأرض عظيم.
إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِيِّ الصَّافِنَاتُ الْجِيَادُ * فَقَالَ إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ:
فذلك من أمارات العناية الخاصة بالنبي سليمان عليه السلام إذ سخر له الرب، جل وعلا، الخيل والطير وسائر أجناس الخليقة فاستعملها الملك المسدد المؤيد بالوحي في رفع لواء الشريعة، فدانت له الممالك، وأتته العروش فلم يفرح ويبطر بل لسان مقاله: (رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ)، وما عرف الله، عز وجل، حق المعرفة، إلا أنبياؤه عليهم السلام ومن سار على طريقتهم: باطنا وظاهرا، علما وعملا، وما عبده حق عبادته إلا هم، فهم أعبد الناس للرب، جل وعلا، فرعا عن كونهم أعلم الناس به، ومن كان بالله أعلم كان له أتقى، وأكملهم طريقة في ذلك النبي الخاتم صلى الله عليه وعلى آله وسلم فإنه ما عرف أحد من الخليقة ربه كما عرف النبي محمد الأمين صلى الله عليه وعلى آله وسلم ربه، وما عبده أحد عبادته، فمن ابتغى غير سبيله ضل، ومن ادعى لنفسه حالا أكمل من حاله زل، فهو المبعوث بأبين الطرائق العلمية وأحكم الطرائق العملية.
رُدُّوهَا عَلَيَّ فَطَفِقَ مَسْحًا بِالسُّوقِ وَالْأَعْنَاقِ: على ما اطرد من من تمام المنة الربانية على النبي الملك سليمان عليه السلام فقد سخرت له آلة الحرب فله من الجند والآلات ما صيره أعظم ملوك زمانه، وأعدلهم، وقل أن تجتمع الخصلتان في نفس واحدة، فالملك مظنة الجور والطغيان وإحداث ما لم يأذن به الرب، جل وعلا، من الرسوم والسياسات الظالمة بزعم الحاجة إليها لتصلح بها الأحوال، وهل يصلح الحال بالظلم؟!، أو أن العدل، ولو كان العادل كافرا هو مظنة استقامة أمر الدنيا، فإن ذلك من السنن الكونية التي يستوي فيها المؤمن والكافر، فلا تجامل أحدا، ولو كان عند الله أفضل، فالمؤمن أفضل من الكافر باعتبار المآل ولو كان ظالما، ولكن الكافر إن عدل استقام له أمر الدنيا وإن كان مآله إلى فساد إن مات على ما هو عليه من الكفران، بمقتضى سنة العدل الكونية، كما هو مشاهد في زماننا من ظهور الغرب النصراني على الشرق المسلم،
والمؤمن إن ظلم فسد أمر دنياه بمقتضى نفس السنة، وإن كان مآله إلى صلاح إن مات على الإيمان ولو ناقصا، فإما أن يعفو عنه الرب، جل وعلا، ابتداء، وإما أن يطهر بكير نار عصاة الموحدين لينتفي خبث نفسه فصير أهلا لسكنى الجنان وجوار الرحمن القدوس المنزه عن كل خبث فلا يجاوره من به خبث ولو كان طاهرا باعتبار الأصل والوصف على حد قوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: "إِنَّ الْمُؤْمِنَ لَا يَنْجُسُ".
يقول ابن تيمية رحمه الله:
"وأمور الناس إنما تستقيم في الدنيا مع العدل الذي قد يكون فيه الاشتراك في بعض أنواع الإثم أكثر مما تستقيم مع الظلم في الحقوق وإن لم يشترك في إثم
ولهذا قيل إن الله يقيم الدولة العادلة وإن كانت كافرة ولا يقيم الظالمة وإن كانت مسلمة ويقال: الدنيا تدوم مع العدل والكفر ولا تدوم مع الظلم والإسلام
وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم ليس ذنب أسرع عقوبة من البغي وقطيعة الرحم فالباغي يصرع في الدنيا وإن كان مغفورا له مرحوما في الآخرة وذلك أن العدل نظام كل شيء فإذا أقيم أمر الدنيا بالعدل قامت وإن لم يكن لصاحبها في الآخرة من خلاق ومتى لم تقم بالعدل لم تقم وإن كان لصاحبها من الإيمان ما يجزي به في الآخرة". اهـ
"الاستقامة"، ص474، 475.
فتلك سنة مطردة منعكسة دائرة مع سببها وهو: العدل، بغض النظر عن إيمان العادل أو كفره، فتوجد بوجوده وتعدم بعدمه.
وما فرط من فرط من أمراء الجور إلا لقلة علمهم بما قررته النبوات من سياسات العدل فظنوا افتقار الشريعة الكاملة إلى سياساتهم الجائرة، وإنما أتي من أتي منهم من قبل جهله، وعدم الوجدان لقصور آلة الفهم وعدم سداد النظر لا يلزم منه عدم الوجود في نفس الأمر، فلا يحتج من أغمض عينيه في رابعة النهار بذلك على عدم وجود الشمس في نفس الأمر.
والله أعلى وأعلم.
¥