تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

فالوهب إما أن يكون استبقاء أهله وزيادته مثلهم معهم، فيكون اللفظ مستعملا في حقيقته ومجازه معا وذلك من كمال منته الكونية على أنبيائه عليهم السلام، فتلك ذكرى لأولي الألباب، إذ ذلك من القياس القرآني الذي يزيد العقل ذكاء والنفس زكاء كما اطرد في براهين الكتاب العزيز التي تخاطب العقل والقلب معا، فما سيقت هذه الآيات إلا للاعتبار طردا وعكسا، فإن هذه المنة الربانية مع اختصاص الأنبياء عليهم السلام بأشرف أنواعها، إلا أن لمن دونهم منها قدرا عظيما، فمن صبر كأيوب، عليه السلام، فإن الرب، جل وعلا، رافع عنه الابتلاء فتلك سنة جارية محكمة، فالشدة بتراء لا دوام لها، ومهما خلق الرب، جل وعلا، من الآلام بمقتضى حكمته إذ يخلق الأضداد لتتمايز، ويبتلي ليذكر ويعافي ليشكر، فلا يسوي بين العباد، كما في حديث خلق الذرية، فاستخرج، جل وعلا، بتلك الآلام من صور العبودية ما يفوق مفسدة وقوعها، فبرؤية أصحاب البلاء من المؤمنين تخشع القلوب وترق، وهم مع ذلك صائرون إلى العافية، فما هي إلا أيام ويلقى المحب حبيبه فيحط رحاله في دار المقامة، إذ قد اشتاقت الجنة إليه، فجمع الرب، جل وعلا، الشمل، بعد الفراق، في دار قد تمحضت العافية فيها فلا آلام، فما ابتلاهم في الدنيا إلا ليعافيهم في الآخرة، وما أمرضهم إلا ليشفيهم، وما قبضهم إلا ليوفيهم أجورهم بأحسن ما كانوا يعملون، فنظر إليهم الغافل فاعتبر، فهم رسل الرب إلى عباده: إني أنا الجبار إذ ابتليت، الرحيم إذ عافيت، لا أخلي أهل البلاء من النعمة، وإنما أدخر لهم عندي بما نزل بهم من الآلام، ما تقر به عيونهم في دار السلام، فهم في جواري، فلا نصب ولا وصب، قد نفيت خبثهم بكير الابتلاء، فليس لهم عتدي إلا النعيم السرمدي في دار الجزاء، فصار ألمهم معدن لذتهم، وحزنهم معدن فرحهم فهم أسعد الناس بآثار رحمتي، فألهمتهم الصبر على القضاء الكوني، متعلق قدرتي، إظهارا لآثار حكمتي بوقوع التدافع بين الأضداد، والتنوع في الأعيان والأحوال، فلكلٍ حال يلائمه، ولكل شأن يناسبه، ومطالعة أهل البلاء تورث القلوب تسليما بكمال أوصاف الرب، جل وعلا، الذي ابتلى بقدرته وحكمته، وعافى برحمته، فمن صبر هذه الساعة نال ما بعدها من النعيم الأزلي الذي لا تنقضي ساعاته. فابتلاؤه، عز وجل، عناية للمبتلى بالتطهير، عناية بالناظر في حاله بالتذكير.

وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا فَاضْرِبْ بِهِ وَلَا تَحْنَثْ إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ: فاستحق وصف العبودية الشرعية الخاص لما صبر على الابتلاء الكوني العام. فكان الابتلاء في حقه منحة باعتبار المآل فهو جار مجرى العناية الربانية بصفوة العباد: الأنبياء عليهم السلام، فبه استحق درجة الأواب، وما كان ليبلغها إلا بمعالجة هذا البلاء، فتلك سنة الرب، جل وعلا، الجارية في عباده ألا تمكين إلا بابتلاء وتمحيص.

وكان ذلك أيضا من تمام العناية بزوجه، رضي الله عنها، إذ صبرت على خدمته حال الشدة فكانت نعم الزوج لزوجها فصارت بذلك أهلا للتكريم بتخفيف النذر بوقوع صورته دون حقيقته.

وقد أثنى الله، عز وجل، على المبتلى الصابر، أيوب عليه السلام، بما أثنى به على الغني الشاكر، سليمان عليه السلام، كما نقل ذلك صاحب التحرير والتنوير رحمه الله عن سفيان، فدل ذلك على المعيار العام في الحكم على العباد، معيار: (إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ)، فليس الفقير الصابر بأولى بالثناء من الغني الشاكر وليس الثاني بأولى بالثناء من الأول بل مناط الثناء: الطاعة فأطوعهما أحقهما به، وإلى طرف من ذلك أشار شارح الطحاوية، رحمه الله، بقوله:

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير