تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

جَنَّاتِ عَدْنٍ مُفَتَّحَةً لَهُمُ الْأَبْوَابُ: فذلك من العموم بإضافة النكرة إلى الاسم العلم: "عدن": فذلك مما يلائم مقام الامتنان، فعناية الرب، جل وعلا، بالمؤمنين قد بلغت الغاية بخلق الجنان المتكاثرة، على حد العموم الشمولي، وإمعانا في الكرامة قيدت بالحال: "مُفَتَّحَةً لَهُمُ الْأَبْوَابُ"، فـ: "أل" في الأبواب عهدية راجعة إلى أبواب الجنان، على تقدير: مفتحة لهم أبوابها فهي الرابط بين الحال السببي وصاحبه، وهي من جهة الدلالة على استغراق ما دخلت عليه: عامة، فذلك، أيضا، من مزيد العناية بهم، فالأبواب كلها مفتحة إمعانا في التكريم، وفي مواضع أخر قيد الداخلون من كل باب بما كان من حالهم في دار العمل.

وإمعانا في بيان صور التنعم من إكرام بتفتيح الأبواب على صيغة المبالغة المقتضية لشدة الفعل وكثرة أفراد المفعول على حد ما اطرد في كلام البلاغيين من كون زيادة المعنى فرعا عن زيادة المبنى، جاء بيان هيئة الجلوس: مُتَّكِئِينَ فِيهَا يَدْعُونَ فِيهَا بِفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ وَشَرَابٍ: فكلها أحوال مقيدة لصورة النعيم، فتجري مجرى البيان بتوالي المقيدات لمطلق، أو المخصصات لعموم، فزيادة المقيدات بمنزلة تعدد الأوصاف الكاشفة لموصوف واحد تزيده بيانا فيحصل بذلك كمال التصور للمنة الربانية في دار الرضوان.

وقوله: وَعِنْدَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ أَتْرَابٌ: جار على ما تقدم من تعداد أفراد النعم الربانية في سياق الامتنان، ثم جاء العموم بعد خصوص ذكر أفراد بعينها لكونها من أكمل صور النعيم وأقربها تصورا للأذهان لمباشرة العباد لنظائرها كثيرا في دار الشهادة، فكان ذكرها من باب التذكير بالنعمة الكونية في الأولى، فذلك هو اللازم العقلي لتصور نظائرها في عالم الشهادة، فالعقل ينتقل من الصورة المشاهدة إلى الصورة المغيبة، بواسطة القدر المشترك بينهما في المبنى اللفظي وأصل المعنى الذي يوجد في الذهن مطلقا على حد التواطؤ أو الاشتراك المعنوي، فثمار كالثمار لا يجمعها إلا الاسم الدال عليها، والمعنى المدرك منه كما اطرد في لسان العرب، دون تطرق إلى كيفية فتلك مما لا يدركه العقل لامتناع القياس في الأخبار سواء أكانت سمعيات عن أمور مخلوقة كالثواب والعقاب، أو إلهيات فانتفاء القياس العقلي طلبا لإدراك حقائقها، كما هي في نفس الأمر، منتف من باب أولى، فغاية العقل أن يقيس ما علمه منها بخبر الوحي الصادق: قياسا أولويا على ما في صفات البشر من كمال مطلق، بجامع المعنى الكلي المشترك الذي لا يلزم من إثباته تمثيل أو تشبيه.

والشاهد أن نعم الرب، جل وعلا، سابغة على عباده: سبوغا عاما في الدنيا هو أثر اسمه الرحمن ذي الرحمة الكونية العامة، وسبوغا خاصا في الآخرة هو أثر اسمه الرحيم ذي الرحمة الشرعية الخاصة بالمؤمنين في الأولى أن هداهم للإيمان وفي الآخرة بأن أدخلهم الجنة بفضله.

فاستحضار مقامات الجلال من قهر بالابتلاء، وتمحيص بالشدة نفيا لخبث النفوس واستخراجا لمعادن العبوديات الخاصة من صبر واحتساب ورضا إن بلغ العبد درجات الصديقية، فتراه ذاكرا تاليا وآلام الابتلاء في جسده سارية قد شغل بذكر الحبيب عما سواه، فهو راض بكل ما قد قضى وقدر لإيمانه بآثار اسمي القدير والحكيم، فبالأولى يوقع المقدور، وبالثانية يأتي المقدور على أحكم وجه، فإن كان ألما يعتصر القلب والبدن فذلك من مرارة الدواء التي لا يكون الشفاء إلا بتجرعها.

واستحضار مقامات الجمال من منة بالنعم السابغات التي هي آثار رحمة ربك في هذا الكون فلأجلها خلق الله، عز وجل، العباد، فخلقهم ليرحمهم بنعمه الكونية في الدنيا ويصطفي من شاء منهم في دار المقامة بنعمه الأبدية، فيظهر أثر اسمه الحكيم في اصطفائه من يسكن تلك الدار فلا يسكنها إلا الصفوة من العباد المخلصين: ابتداء أو بعد تمحيص النفوس بنار العصاة فبها يذهب الله، عز وجل، الرجس عن النفوس، فتطهر لتصير على حد جوار الرحمن، كما تقدم، فله الحمد في الأولى فهو رحمانها، وله الحمد في الآخرة فهو رحيمها.

والله أعلى وأعلم.

ـ[مهاجر]ــــــــ[15 - 02 - 2010, 07:21 ص]ـ

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير