وذلك على فرض أن عنصر النار أشرف من عنصر الطين، فكيف والأصل غير مسلم له فيه، وإنما سلم له ابتداء تنزلا مع المخالف، فهو من باب الفرض العقلي المحض فلا حقيقة له في نفس الأمر فإن عنصر الطين أشرف من عنصر النار، فالطين طبعه الرزانة، والنار طبعها الطيش والخفة، ولذلك كانت عقول الجان أقل من عقول بني آدم، لخفة مادة الجان، والخفة مظنة النقص، والطين أثره نافع، فمنه يخرج جنس الشجر والزرع، فتخرج منه الثمرات رزقا طيبا، والنار أثرها ضار فهي مادة فساد للأعيان، تأتي عليها فتحرقها وتتلفها، فلا يستوي من كان معدنا للفضل، ومن كان معدنا للنقص، فأصله الذي بنى عليه قياسه فاسد، وقياسه في نفسه فاسد.
يقول صاحب "أضواء البيان" رحمه الله:
"فكل من رد نصوص الوحي بالأقيسة فسَلَفُه في ذلك إبليس، وقياس إبليس هذا لعنه الله باطل من ثلاثة أوجه:
الأول: أنه فاسد الاعتبار. لمخالفة النص الصريح.
الثاني: أنا لا نسلم أن النار خير من الطين، بل الطين خير من النار. لأن طبيعتها الخفة والطيش والإفساد والتفريق، وطبيعته الرزانة والإصلاح فتودعه الحبة فيعطيكها سنبلة والنواة فيعطيكها نخلة.
وإذا أردت أن تعرف قدر الطين فانظر إلى الرياض الناضرة وما فيها من الثمار اللذيذة، والأزهار الجميلة، والروائح الطيبة، تعلم أن الطين خير من النار.
الثالث: أنا لو سلمنا تسليماً جدلياً أن النار خير من الطين: فإنه لا يلزم من ذلك أن إبليس خير من آدم. لأن شرف الأصل لا يقتضي شرف الفرع، بل قد يكون الأصل رفيعاً والفرع وضيعاً، كما قال الشاعر:
إذا افتخرت بآباء لهم شرف ******* قلنا صدقت ولكن بئس ما ولدوا". اهـ بتصرف يسير
وخلق الملائكة من مادة النور العليا فهي معدن القدس، وخلق الجان من مادة النار الدنيا فهي مادة الطيش والنزق، وخلق آدم بينهما من مادة الطين الرزينة فيتأثر بكليهما فتارة تغلب عليه النزعة النورانية بمباشرة أسباب الطاعة التي تزكو بها الروح، وتارة تغلب عليه النزعة الشهوانية بمباشرة أسبابها فتثقل الروح وتصير النفس كثيفة وبيئة، ذلك الخلق المتفاوت مئنة من دلالة الإيجاد المعجز الذي انفرد به الرب جل وعلا.
والله أعلى وأعلم.
ـ[مهاجر]ــــــــ[19 - 02 - 2010, 07:29 ص]ـ
ومن سورة الكهف:
ومن قوله تعالى: (وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقَاظًا وَهُمْ رُقُودٌ وَنُقَلِّبُهُمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَذَاتَ الشِّمَالِ وَكَلْبُهُمْ بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِالْوَصِيدِ لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَارًا وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْبًا):
فالطباق بين ظن الرائي لهم يقظتهم وكونهم رقودا في نفس الأمر يزيد دلالة العناية بهم تقريرا وبيانا، فقد تكفل الله، عز وجل، بحفظهم بقدره الكوني لما حفظوا أمره الشرعي، فـ: (رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَ مِنْ دُونِهِ إِلَهًا)، فقلبهم ذات اليمين وذات الشمال فذلك من وصف فعله الكوني في خلقه بما شاء، فقلبهم بكلماته الكونيات النافذات لئلا تفسد أبدانهم، وجاء التقليب بصيغة المضارع استحضارا لتلك الصورة العجيبة، وكلبهم باسط ذراعيه، فعمل اسم الفاعل في معموله مع كونه لا يعمل مجردا من "أل" إلا في الحال أو الاستقبال، استحضارا للصورة، إذ هي، كما تقدم، من العجب بمكان، ففيها تقرير لما تقدم من كمال عناية الرب، جل وعلا، بأولئك النفر الكرام، عناية كونية خاصة تزيد على عنايته الكونية العامة بسائر الخلائق إذ قد امتاز أولئك بوصف شرعي زائد هو، عند التحقيق، محض فضل ومنة منه تبارك وتعالى، أن ألهمهم الإيمان، وألهمهم الثبات على ذلك الإيمان، وألهمهم الفرار به إذ لم يكن العذر بالإكراه في شريعتهم كائنا، فذلك مما اختصت به هذه الأمة بقرينة الاختصاص في قوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: "إن الله تجاوز عن أمتي الخطأ، والنسيان، وما استكرهوا عليه"، فسياق الامتنان يقتضي الاختصاص، ثم حفظهم بأن صرف عنهم الأنظار في كهف غائر في الجبل، ولو اطلع عليهم أحد لألقى الرب، جل وعلا، في قلبه الرعب عناية بهم فانصرف عنهم فلم تحدثه نفسه بالاقتراب منهم فينكشف له حالهم إذ هم نيام يسهل قتلهم أو أسرهم أو إلحاق أي ضرر بهم، فقد يقال بأن ذلك الرعب من جنس الرعب
¥