تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

اتصف بالحياة من المخلوقات، ولو كانوا جنا غير مرئي!، فظهور إتقان الصنعة الربانية إنما يكون في افتراق تلك الخلايا تبعا لخصائصها الجينية لتصل إلى هيئة عقلية وجسدية بعينها فللإنسان من ذلك أكمل الهيئات: (وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آَدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا)، وتليه بقية أفراد المملكة الحيوانية نزولا إلى أن نصل إلى الكائنات البدائية، فالاشتراك، كما تقدم، في التركيب العام للخلايا: النواة، السيتوبلازم ......... إلخ، فذلك مئنة من وحدانية الرب، جل وعلا، والافتراق في الخصائص الجينية، فذلك مئنة من ربوبية التنوع بخلق الشيء وشبيهه، بل الشيء وضده، على نحو يحصل به انتظام أمر العالم وفق سنن كوني محكم.

ثُمَّ جَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا: فابتداء غاية خلق الأنثى من الذكر، وهو مما امتن به الرب، جل وعلا، على النوع الإنساني، إذ ذلك مما يقوي رباط المودة بين الزوجين، فيرجع أحدهما إلى الآخر رجوع الفرع إلى أصله، وتلك معان جليلة افتقدها كثير من الأزواج في زماننا، فصار الزواج قضاء وطر، وإن كان ذلك من مقاصده الرئيسة، بلا مودة بل محض عادة، وصار الزواج شركة نفعية أكثر منه شركة إنسانية.

وفي إضافة الزوج إلى النفس الأولى مزيد بيان للملابسة الإنسانية الرفيعة الكائنة بين الزوجين، فهي ملابسة نفسية وجسدية يحصل بها من المودة ما يستقيم به أمر الحياة، وتلك من الآيات الكونية الباهرة لمن تأملها، وهي مع ذلك دليل ظاهر على وحدانية وغنى الرب، جل وعلا، بإظهار وصف افتقار المخلوق إلى زوجه في مقابل غنى الرب، جل وعلا، عن الصاحبة والولد، فهي نعمة كسائر نعم الدنيا لا تنفك عن وجه نقص يظهر به كمال وصف الرب، جل وعلا، بإزاء نقصان وصف العبد، فالكمال فيها مقيد، بل لا يتصور انفكاك جهته عن جهة النقص، فليست كصفات الكمال المقيد التي تقبل معانيها الانقسام، فيثبت للرب، جل وعلا، منها ما أثبته لنفسه وما أثبته له رسوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم على الوجه اللائق بجلاله، كصفة المكر فإن معناها الكلي يقبل الانقسام إلى: مكر هو وصف كمال خالص، وهو المكر بالماكرين فذلك مما أثبته الرب، جل وعلا، لنفسه في محكم التنزيل: (وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ)، ومكر هو وصف نقص خالص وهو المكر بالمؤمنين وذلك وصف الكافرين فلا يتصور بداهة إثباته لرب العالمين تبارك وتعالى.

وأما الزوجية فهي لا تنفك عن نقص الشهوة إلى الزوج والافتقار إلى الولد، ولا يمكن فصل هذا النقص الذاتي في هذه الصفات عنها ليتمحض وجه الكمال فيها فيصح وصف الرب، جل وعلا، بها، فالنقص ذاتي لازم لها أبدا، فلذلك كانت بالمخلوق أليق إذ الفقر والحاجة وصف ذات ثابت له أبدا كما أن الغنى وصف ذات لازم للرب، جل وعلا، أزلا وأبدا، كما قرر ذلك بعض المحققين كابن تيمية رحمه الله.

قال في "الصفدية":

"فكل ما سوى الله فإنه بذاته فقير إليه لا يتصور أن لا يكون فقيرا إليه وفقره إلى الله ليس لعلة أوجبت له أن يكون فقيرا بل فقره لذاته". اهـ

"الصفدية"، (2/ 188).

وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقًا مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُمَاتٍ ثَلَاثٍ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ:

فالإنزال مئنة من نزول ماء الفحول في أرحام الإناث فذلك أيضا من معاني الزوجية التي أقيم عليها هذا الكون، إظهار للقدر الفارق بين الرب الواحد، والمخلوق الذي لا يستطيع العيش إلا مقترنا بزوجه، فإن وجد في عالم الشهادة فرد بلا زوج فهو استثناء لا يقدح في الأصل، مع كونه غير مطمئن فلن يسكن إلا إن آوى إلى زوجه ما لم يمنع من ذلك عارض كوني فكثير من الأفاضل، قديما وحديثا، قد عاشوا وماتوا بلا أزواج، وقد وضع بعض الفضلاء المعاصرين رسالة لطيفة في ذلك جمع فيها سير بعض أهل العلم من المتقدمين ومن المتأخرين ممن لم يتزوجوا، وذلك جار مجرى التنويع في الأقدار مئنة من عموم مشيئة الرب، جل وعلا، فقد قضى لبعض

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير