بالزواج والذرية، وقضى لبعض بالزواج ولم يقض بالذرية، ولم يقض لبعض بكليهما، بل قد قضى لبعض بالذرية بلا زوج، كما وقع للبتول عليها السلام، فذلك النتوع الذي استوفى القسمة العقلية الرباعية مئنة من كمال القدرة وبلوغ الحكمة الربانية.
وخلق الأنعام: دليل إيجاد من جهة التكوين لها على ذات السنن الذي يتولد به الجنين في رحم الأنثى من البشر، ودليل عناية بالبشر فالأنعام قد خلقت لهم على حد الاختصاص، في قوله تعالى: (وَالْأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ)، فذلك خاص في جنس الأنعام، وقرينة الامتنان مئنة من عموم: "أل" الجنسية في "الأنعام" فهي مستغرقة لأفراد الجنس الذي دخلت عليه فلا يناسب ذلك التخصيص إلا ما كان لحق الرب، جل وعلا، ولذلك خرج من ذلك الخنزير والميتة والمنخنقة ........ إلخ، فكلها أنعام ولكن قام بها وصف تعلق به التحريم لحق الرب، جل وعلا، فقضى على عموم: "الأنعام" بالتخصيص إذ الخاص يقضي على العام كما قرر الأصوليون.
بل الأرض كلها قد خلقت لهم على حد الاختصاص في معرض الامتنان، كما في قوله تعالى: (هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَوَاتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ).
وهي مستند من قال بأن الأصل في الأشياء الإباحة، كما تقدم في مواضع أخر، والعموم فيها، أيضا، جار على حد عموم الامتنان الذي لا يخصص إلا لحق الله، عز وجل، فالأصل في الذبائح الحرمة لا الحل، فذلك تخصيص لحق الله عز وجل، والأصل في الأبضاع الحرمة، فذلك تخصيص آخر لحق الله عز وجل ..... إلخ.
يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقًا مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ: فالمضارع مئنة من استحضار صورته لبيان أوجه الإعجاز الإيجادي فيها فضلا عن ديمومته فهو أمر يتكرر بتكرر حمل الإناث ونشأة الأجنة في بطونهن.
فِي ظُلُمَاتٍ ثَلَاثٍ: البطن والرحم والمشيمة، ففي تلك الظلمات ينشأ الجنين على ما قد علم واكتشف حديثا في علم الأجنة، وهو من أدق مباحث علم التشريح في الكليات التي تعنى بدراسة الحياة الإنسانية أو الحيوانية، فدراسة أطوار الجنين، وتصديق العلم المتأخر لخبر الوحي المتقدم على نحو قد بلغ حد المطابقة، آية كونية نفسانية باهرة، على حد قوله تعالى: (سَنُرِيهِمْ آَيَاتِنَا فِي الْآَفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ)، فدرجة التخصص الخلوي، إن صح التعبير، مع كون كل الخلايا في أصلها واحدة، وهي الخلايا الجذعية: " Stem Cells" فتتمايز إلى خلايا عصبية وخلايا عظمية ........ إلخ على حد قد بلغ الغاية من الدقة، فالبويضة المخصبة أو " Zygote" تتحول إلى تجمع خلوي وسيط يدعى: " BlastoCyst" فهي أشبه بالحوصلة، فتجمع خلوي أرقى: " Gastrula" يتمايز إلى ثلاث مستويات خلوية:
" Endoderm" : وهي طبقة داخلية تنشأ منها خلايا الأحشاء كالرئة والبنكرياس والغدة الدرقية.
و: " Mesoderm" : وهي طبقة وسيطة تنشأ منها خلايا القناة الهضمية الملساء وخلايا العضلات الهيكلية والخلايا الأنبوبية في الكلية وخلايا العضلات القلبية وخلايا الدم الحمراء.
و: " Ectoderm" : وهي طبقة خارجية تنشأ منها الخلايا العصبية والصبغية والجلدية.
فهذه طبقات الخلايا الجسدية: " Somatic Cell" ، فضلا عن طبقة أخرى تنشأ منها الخلايا التناسلية: " Germ Cells" التي تنتج الحيوانات المنوية والبويضات.
فلا تنشأ خلية عظمية في الجهاز العصبي، ولا تنشأ خلية عصبية في الجهاز العظمي، ولا تسلك الخلية الجسدية مسلك الخلية التناسلية، بل كل قد بلغ الغاية في التخصص، ودلالة التخصيص من الدلالات العقلية الصحيحة، التي اعتمدها المتكلمون في باب الإلهيات، وإن لم تكن هي العمدة في إثبات صفة الإرادة الربانية، وفيها من معاني العلم والحكمة ما فيها فإن تمايز الخلايا على هذا النحو الدقيق لا يكون إلا بعلم سابق، فذلك من البداهة بمكان، ففي عالم الشهادة لا يمكن لصانع أن يصنع آلة إلا إذا كان عالما سلفا بطريقة صناعتها، وكلما زاد علمه بذلك زاد إتقانه لصنعته، ولذلك يتفاوت الصناع مهارة تبعا لتفاوت علمهم بأسرار الصناعة
¥