تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

ودقائقها، فليس سواء عالم وجهول، وتبعا لجودة المادة الخام التي تستعمل في التصنيع، فقد تكون طريقة التصنيع واحدة، ولكن جودة المادة الخام ترجح صنعة على أخرى، كما هو مشاهد على سبيل المثال في صناعة الرقائق الإلكترونية، فالمنتج الياباني أرقى من المنتج الصيني، مع أن طريقة الإنتاج واحدة، بل كثير من الشركات الصينية ما هي إلا توكيلات للشركات اليابانية، التي تهب حق الإنتاج والعلامة التجارية للشركة الصينية، ومع ذلك يقع التفاوت الكبير بين المنتجين، لجودة المواد المستعملة في طرف ورداءتها في طرف آخر حتى أن كثيرا من الدوائر الإلكترونية في المنتجات الصينية تصنع في البيوت من باب: نعلمك صناعة ونشتري إنتاجك!، كمن يشتري إنتاج من احترف مهنة الخياطة في البيوت من النساء، فمن البدهي أن تكون أردأ، وإن كانت الصورة واحدة، وطريقة الأداء واحدة، بل المنتجات الصينية تتمايز أيضا تبعا لجودتها، فالمستويات العليا تصدر إلى الدول الغنية، والمستويات الدنيا تغرق بها أسواق الدول الفقيرة كما هو الحال عندنا في مصر التي أصبحت مقاطعة اقتصادية تابعة للصين حتى وفد الشباب الصيني إلى مصر لبيع منتجاته وتعلم لغتنا وطرق أبواب بيوتنا ليعرض بضاعته في همة عجيبة في تحصيل أمر المعاش في مقابل انصراف تام عن تحصيل أمر المعاد فهي أمة لا زالت على رسم الشيوعية المنقرضة، فالإلحاد دينها، والمنفعة المادية المحضة معبودها.

والشاهد أنه إذا كان الأمر كذلك في عالم الشهادة إذ لا بد من علم سابق، ولا بد معه من حكمة بالغة فلا يوضع الجزء أو الترس أو الدائرة الإلكترونية الدقيقة إلا في الموضع الملائم على حد قد بلغ الغاية من الدقة والتخصص، وهذه دلالة التخصيص آنفة الذكر، ولا بد معهما من قدرة إذ لا يقدر العاجز على الفعل بداهة، فإذا كان الأمر كذلك في عالم الشهادة في صناعة آلة، فكيف بخلق الأجنة في أرحام الأمهات على ذلك النحو العجيب فلا بد من باب أولى من: علم محيط بكل أنسجة الجنين وخلاياه، على حد التفصيل الجزئي لا الإجمال الكلي كما يزعم الفلاسفة الذين أنكروا علم الرب تبارك وتعالى بالجزئيات فأورثهم ذلك تخليطا في دراسة علوم الحياة فمنطلقهم منطلق من يعتقد لنفسه الريادة العلمية المطلقة فإن توصل إلى علم دقيقة من دقائق الحياة فهو بها فرح بطر إذ قد سبق علمه علم الرب جل وعلا الذي لا يعلم الجزئيات التي يعلمها أرباب الميكروسكوبات! وذلك من آثار فساد المقالة الإلهية في البحث الطبيعي التجريبي إذ لا بد من تصور إلهي صحيح قبل الخوض في دراسة علوم الحياة الدقيقة لئلا يصاب الدارس بالانبهار فالإلحاد إن لم يكن ممن يدرك أوصاف كمال الرب، جل وعلا، مسبب الأسباب ومجريها بكلماته التكوينيات النافذة، فيظن أن الأمر محض سنن كونية ميكانيكية تؤدي إلى مسبَّباتها لزوما لا انفكاك فيه بلا أي تأثير من قوة غيبية قاهرة لها من الصفات الفاعلة ما تصدر عنه الكلمات التكوينية التي بها تكون الخلايا والأنسجة على هذا النحو المحكم، فلا تنمو خلية من طور إلى طور، ولا تنقسم طبقة خلوية لتنتج خلايا جسدية، ولا تتمايز تلك الخلايا، إلا تأويلا لذلك العلم الأول المحيط بكل الكائنات، ولا بد من حكمة يقع بها هذا التمايز الخلوي البديع، ولا بد من قدرة على إنفاذ المقدور أزلا، المسطور في اللوح المحفوظ قبل خلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة، ليقع في عالم الشهادة كما قدر بلا زيادة أو نقصان.

وأما مادة الحياة فهي مادة قد تفرد الباري، عز وجل، بتكوينها فلا يعط توكيلا بها إلى الصين أو اليابان!، فلا يقدر أحد على توليدها، بل غايته أن يعبث بها كما فعل مستنسخو النعجة: "دولي"، الذين بلغ منتهى أمرهم إنتاج نسخة مريضة شوهاء، بحقن خلية جسدية هرمة من خلاياها بنواة مخصبة بعد نزع نواتها الجسدية، فكان ذلك الخلق على غير سنن الإحكام الرباني، وإن وقع بقدره الكوني فلا يخرج شيء من هذا الكون ولو كان عبثا أو فسادا عن مشيئته القهرية العامة، فعملهم أشبه بقهر خلية ليس من شأنها الانقسام على الانقسام فذلك خروج عن سنن الكون المحكم أدى إلى تلك النتيجة، ولو كانوا صناع حياة من العدم لصنعوا خلايا تناسلية من طبيعتها الانقسام

وزاوجوا بينها ليخلقوا أجنة من العدم، فغايتهم، كما تقدم، أن يعبثوا بمادة الحياة المخلوقة سلفا فلا قدرة لهم على إنتاجها من العدم وإن كانت في غاية البدائية.

وبعد آيات الإيجاد والعناية جاء التذكير بأنها من الرب، جل وعلا، على حد الإشارة إلى البعيد تعظيما لمقام الربوبية فـ:

ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ: على حد القصر بتعريف الجزأين، فهو الإله المعبود فرعا عن كونه الرب الموجد الذي أعطى كل شيء خلقه إيجادا ثم هداه عناية.

لَهُ الْمُلْكُ: فذلك من باب الإطناب بتعدد الأخبار، فهذا خبر ثان على حد الفصل لكمال الاتصال بين الأخبار فهي لمبتدأ واحد، فله الملك على حد القصر، أيضا، بتقديم ما حقه التأخير، فضلا عن دلالة اللام على الملكية والاختصاص، فله وحده لا لغيره الملك، وهو عام لكل الأعيان والأحوال فهو المالك المدبر، فلكمال ربوبيته:

لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ: فذلك خبر ثالث من باب ذكر اللازم عقيب ملزومه فإذا ثبت له عموم الربوبية بالملك والقهر، فهو المتفرد بالألوهية لزوما، إذ لا يستوي من خلق ورزق ومن لا يخلق شيئا ولا يرزق أحدا بل هو مخلق مربوب مفتقر إلى رازقه: (إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُوا لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ).

فَأَنَّى تُصْرَفُونَ: فذلك من الإنكار التوبيخي لهم لتوليهم عن طريق الإيمان، وجيء به على حد المضارعة على ما تقدم من وقوعه المستمر فهم مقيمون على ذلك حتى بعد نظرهم في تلك الآيات الكونية الباهرة، كما أشار إلى ذلك صاحب "التحرير والتنوير" رحمه الله.

والله أعلى وأعلم.

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير