تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

وجل، وليس ثم رب يشاركه أو يظاهره، فله كمال الغنى عن خلقه، فلا يفتقر إلى معين منهم أو نصير، بل قد انفرد يإيجادهم بقدرته وتسيير أمرهم بحكمته، وفصل الآيات الكونية المنظورة لتعيها الأبصار، وفصل الآيات الشرعية المسموعة لتعيها الآذان، فينتفع القلب بمداد البصر والسمع، فيحصل من ذلك اليقين بلقاء رب العالمين فذلك من تمام ألوهيته، عز وجل، فذيل بالألوهية عقيب الربوبية لما تقدم مرارا من التلازم الوثيق بينهما، فالأولى علة الثانية، إذ علة كونه الإله المعبود أنه الرب المنفرد بأخص أوصاف الربوبية ملكا للأعيان وتدبيرا للأحوال.

وبعد بيان حال العالم العلوي سماء وأجراما، جاء بيان حال العالم الأرضي، استيفاء لجهات الكون في معرض بيان عموم ربوبيته لكل خلقه إيجادا وعناية، فبعد رفع السماء وتسخير الأجرام، جاء جعل الرواسي إلقاء، والأنهار شقا وجريانا، والثمرات إنباتا، فذلك من الجعل الكوني الذي يرادف الخلق لتعديه إلى مفعول واحد على وزان الجعل في قوله تعالى: (وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ)، فمن كل الثمرات فذلك آكد في تقرير القدرة بتنوع أجناس الثمار، فمن: جنسية بيانية باعتبار الأنواع، تبعيضية باعتبار الآحاد المتجددة من كل نوع، فثمر ينضج وآخر يفسد أو يستهلك، وكلٌ بمشيئة الرب، جل وعلا، كائن، فالإنبات بقدر، والأكل بقدر، فمنه ما يأكله الطير ومنه ما يتغذى عليه الحيوان ومنه ما يستمتع به الإنسان إن لم يكن من القوت فهو غير مدخر كالفاكهة، ومنه ما هو قوت يدخر كالحبوب، ومنه ما هو دواء، ومنه ما ينتفع به في غير التغذي من الاستظلال والبناء فالخشب والجريد تسقف به البيوت، وتصنع من الأبواب وسائر المرافق، فليس نفع الشجر من ثمره فقط، وإنما خص الثمر بالذكر لكونه أعظم صور الانتفاع، كما أشار إلى ذلك صاحب "التحرير والتنوير" رحمه الله، فذكره لا يخصص عموم المنة، كما تقدم من دلالة الخاص في معرض الامتنان، فلا يستفاد منه حصر أو قصر على صورة المذكور وإنما يدل اللفظ عليها وعلى سائر الأفراد، والتلف لما لم يؤكل بقدر، فقد علم الرب، جل وعلا، أزلا ما سيثمر، وما سيؤكل، وما سيفسد ..... إلخ ثم شاء وجوده في الكون فجاء كما قدر فحصل بذلك من وجوه المنفعة للطير والحيوان والبشر، بل وللأرض التي تستفيد من المادة العضوية المتحللة للثمر الفاسد فتزداد بذلك خصوبة، ودلالات العموم في السياق مئنة من عظيم القدرة وتمام المنة، فتنكير: "رواسي" و "أنهارا" مئنة من التكثير، ومن التنويع فإنها ليس على وصف واحد فمنها رواسي شامخات، ومنها دون ذلك، ومنها ما عدنت فيه الكنوز، ومنها ما حفرت فيه الكهوف، ومن الأنهار ما طال ومنها ما قصر، ومنا ما استقام، ومنها ما انحرف، ومنها ما توحد ومنها ما تفرع ......... إلخ من صور العموم التي تدل عليها النكرة فهي مظنة الشيوع كما قرر النحاة، وكذلك القول في "أل" في الثمرات كما تقدم في أكثر من موضع فهي: جنسية استغراقية لعموم ما دخلت عليه فأزالت ما يتوهم من معنى جمع القلة في "الثمرات"، إذ جمع المؤنث السالم مئنة من القلة بأصل وضعه، ولكن دخول "أل" عليها قد أزال احتمال القلة وقطع بإرادة الكثرة التي يدل عليها العموم الجنسي، كما أشار إلى ذلك أبو حيان رحمه الله، فهي معرفة من جهة اللفظ، قد أشبهت النكرة من جهة المعنى لدلالتها على استغراق جنس ما دخلت عليه فذلك، أيضا، مظنة الشيوع، واختار صاحب "التحرير والتنوير" رحمه الله الوقف على: "الثمرات". ثم الاستئناف بذكر جعل جديد هو جعل الزوجين من كل خلق، فذلك أليق بسياق الامتنان، ففيه ذكر نعمة جديدة من النعم الكونية السابغة، بخلاف ما لو تعلق الجار والمجرور: "ومن كل الثمرات" بالفعل "جعل" فلا ذكر فيه لوجه جديد من أوجه المنة الربانية، فتأسيس معنى جديد أليق بالنظم القرآني إثراء للسياق بالمعاني، فخلق، عز وجل، الأشياء على سنة الزوجية، فهي سنة كونية بها يظهر كمال الرب الواحد بذاته الأحد بصفاته، فلا فرد سواه، ولا صمد يبقى بعد فناء الخلق إلاه، فهو المنفرد بكمال الذات والصفات، فلا يفتقر إلى زوج يشاكله افتقار سائر الكائنات إلى أزواجها فظهر بذلك من كمال وصف غناه الذاتي ما به يعرف الخلق أقدارهم فهم بضده

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير