أبدعها وأبدع الكون لا على مثال سابق فإعادته أهون، وكل عليه يسير، تبارك وتعالى، فصار إنكارهم للبعث بعد هذا السرد لتلك الجملة المتكاثرة من أدلة افيجاد والعناية صار محط العجب فـ: (إِنْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ أَئِذَا كُنَّا تُرَابًا أَئِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ).
والله أعلى وأعلم.
ـ[مهاجر]ــــــــ[10 - 03 - 2010, 08:09 ص]ـ
ومن قوله تعالى: (اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (62) لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآَيَاتِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (63) قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجَاهِلُونَ (64) وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ)
فالله خالق كل شيء، فذلك من العموم المحفوظ إذ ما سوى الله، عز وجل، مخلوق بداهة، فليس ثم إلا الخالق، عز وجل، متصفا بصفات الكمال المطلق، والمخلوق، فذلك من دليل الإيجاد، وقوله: "وكيل": من دليل العناية فهو المدبر للسماوات والأرض له مقاليدها، وذلك جار على ما تقدم مرارا من كون الملك، والخلق لازمه بداهة، إذ خالق الشيء أولى الناس بملك عينه، والتدبير، فالمالك للعين قد لا يملك تدبيرها، فإذا اجتمع الوصفان: الخلق والتدبير لزم من ذلك اتصاف صاحبهما بكمال المٍلك، ولله المثل الأعلى، فإنه خالق الكون بكلماته الإيجادية، ومدبر أمره بكلماته الكونية، وشارع أحكامه بكلماته الشرعية على ألسنة رسله عليهم السلام.
وعلى ما اطرد من التلازم بين الربوبية والألوهية جاء الاستفهام الإنكاري الإبطالي وقدم محل الإنكار وهو عبادة غير الله، عز وجل، إذ ليست العبادة مطلقا محل إنكار بل هي من لوازم النفس البشرية الحساسة المتحركة إلى المعبود رغبة ورهبة، محبة وخشية، فالعبادة جنس كلي تندرج تحته أنواع من العبادات منها الصحيح ومنها الفاسد، منها ما هو على رسم التوحيد ومنها ما هو على رسم التشريك، فتوجه الإنكار إلى النوع الفاسد منها وهو: عبادة غير الله عز وجل.
ثم جاء الوعيد المؤكد بالقسم: فذلك من فرض المحال في حق الأنبياء عليهم السلام لبيان مقادير الأعمال لغيرهم، فالشرك سبب الحبوط والخسران، وإنما خوطبوا به مواجهة وأريد غيرهم لكونه، كما تقدم، محالا في حقهم لمكان العصمة.
ومع الوعيد سلبا، جاء الأمر إيجابا: (بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ)، فاستوفى السياق شطري الفعل البشري: الترك سلبا، والفعل إيجابا، على ما اطرد من عموم التشريع الإلهي لكل أحوال المكلف: فعلا وتركا، بخلاف التشريع الأرضي الذي يعنى بتقرير السلب في معرض درء المفاسد فلا يعنيه كثيرا جلب المصالح لآحاد المكلفين، فإن أتت فتبعا لا أصلا. وقدم لفظ الجلالة تخصيصا له، جل وعلا، بالعبادة، وتوكيدا على وجوب إفراده بها فرعا عن انفراده بالربوبية خلقا وتدبيرا.
والله أعلى وأعلم.
ـ[مهاجر]ــــــــ[11 - 03 - 2010, 08:00 ص]ـ
ومن قوله تعالى: (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ فِي الْأَرْضِ ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطَامًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ)
فذلك من تشبيه الوحي النازل بالماء النازل، وتشبيه الإيمان النابت في القلب بالزرع النابت في الأرض، كما أشار إلى ذلك صاحب "التحرير والتنوير" رحمه الله، فهو جار على حد تشبيه التمثيل، وفيه من جهة أخرى دلالة على إيجاد الرب، جل وعلا، لهذا النبت وفق سنن كونية محكمة فماء السماء يثير في البذر قوى الحياة، بالإذن الكوني المنشيء لها فلا تعمل القوى المؤثرة في الماء بالإنبات إلا بالمشيئة النافذة، فيشاء الرب، جل وعلا، إعمال تلك القوى في بذور فتحيى ولا يشاء في أخرى فتموت، وتلك سنة كونية جارية في عالم الحيوان جرياتها في عالم النبات، فماء الذكور يباشر ماء الإناث فتتولد منه الحياة فيشاء الرب لنطفة واحدة أن تحيى فتتحد بالبويضة ليتولد من ذلك بويضة مخصبة أودع الرب، جل وعلا، فيها قوى الانقسام والتمايز إلى خلايا وأنسجة الجنين المختلفة، ولا يكون ذلك إلا بكلمات كونية متتالية تقع بها أطوار الانقسام المتوالية حتى يأذن الرب، جل وعلا، باكتمال جسد الجنين ونفخ الروح فيه، كما يأذن باكتمال النبتة: مجموعا جذريا ضاربا في الأرض، وآخر خضريا ضاربا في السماء، فسلك الماء في الأرض ينابيع على حد الحالية، ثم أخرج به أجناس الزرع المختلفة على حد التراخي بالنظر إلى أطوار نمو النبات، ثم اجرى عليه السنة الكونية بالقوة فيهيج ويصلب، فالضعف فيصفر وييبس، ثم الموت فيصير حطاما، فتلك ذكرى لأولي الألباب بالنظر في سنة الإيجاد من العدم فالإحياء مع ما يستلزمه من العناية بالحي بإعداد قواه لقبول آثار الحياة وإمداده بأسبابها الشرعية فتلك مادة حياة الروح، والكونية فتلك مادة حياة البدن، فالموت إظهارا لكمال وصف الرب، جل وعلا، بأشرف أجناس الحياة على حد الأولية والآخرية المطلقة، فقهر العباد بالموت والإفناء ليظهر كمال وصفه الذاتي بتلك الحياة الكاملة فلا يعتريها ما يعتري حياة البشر من أعراض النقص والفناء، فبأعراض النوم والمرض والموت يباين المخلوق الخالق فلكل وصفه اللازم، فالفقر والنقص وصف لازم أبدا لذات المخلوق، والغنى والكمال وصف لازم أبدا لذات الخالق عز وجل، إذ الوصف فرع عن الذات، فكمال وصف الخالق، تبارك وتعالى، من كمال ذاته القدسية، كما أن نقص وصف المخلوق من نقص ذاته الأرضية.
ثم جاء التذييل بعلة بيان ما تقدم من أطوار تخليق النبات على حد الفصل لشبه كمال الاتصال: إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ. وفيه تعريض بمن لم يتذكر به فليس من أولي الألباب.
والله أعلى وأعلم.
¥