تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

فأراد الخضر، عليه السلام، أن يعيبها، وذلك من كمال العلم وعظم الأدب، إذ نسب ما في الفعل من شر، ولو ظاهر، فلم يرد لذاته، وإنما أريد لما ترتب عليه من الخير الآجل بصرف همة الملك الظلوم عن سلبهم السفينة التي يعملون عليها، ومع ذلك نسبه الخضر عليه السلام إلى نفسه، باعتبار المباشرة، فهو الفاعل، وإن صحت نسبة الفعل إلى الله، عز وجل، باعتبار الخلق فهو الخالق المقدر له في عالم الغيب، الخالق الموجد له في عالم الشهادة، فالجهة منفكة، فلا يمنتع اجتماع الإرادتين في محل واحد، هو الفعل الكائن في عالم الشهادة: فنسبته إلى الرب، عز وجل، غير نسبته إلى العبد، فالرب: خالق بالإرادة الكونية النافذة، والعبد فاعل بالإرادة البشرية المخلوقة المنقادة للإرادة الكونية النافذة فلا تخرج عنها إذ لا خروج لذرة من ذرات هذا الكون عن مشيئة الرب، جل وعلا، فهي مشيئة عامة نافذة، فلا راد لما شاء الرب، جل وعلا، فذلك من القضاء المبرم فلا تبديل له، وإن لم يحل ذلك بين العبد وبين بذل الأسباب الكونية والشرعية فبها يتوصل إلى تأويل ما قد قدر أزلا: في عالم الشهادة، فتلك سنة الله، عز وجل، في كونه، الذي أقيم على مباشرة الأسباب المؤثرة، بما أودع فيها من القوى، في إيجاد المسببات، فالأكل سبب الشبع، والشرب سبب الري ....... إلخ، فتلك من الأسباب الكونية، والطاعة سبب النجاة والدعاء سبب الإجابة ...... إلخ، فتلك من الأسباب الشرعية، وبمباشرة كليهما تستقيم أمور الكون، ففيها من القوى ما تصلح به أحوال الروح والبدن، وهي مع ذلك لا تستقل بالتأثير فلا خروج لها عن إرادة الرب العلي القدير عز وجل.

فأراد أن يعيبها، وذيل بعلة تلك الإرادة، فـ: "وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا": أي: أمامهم فذلك من الأضداد التي تدل على المعنى وضده معا والسياق هو الذي يعين مراد المتكلم، فكان أمامهم فيما يستقبل من أمرهم: ملك يأخذ كل سفينة صالحة بدلالة اقتضاء النص، فإن العيب لم يخرجها عن وصف السفينة، فلو كان يأخذ كل سفينة مطلقا ما كان للتقييد بالوصف المقدر:"صالحة" فائدة، فالسياق دال على القيد فإن الصلاح المقدر يضاد العيب الذي أحدثه الخضر عليه السلام، فتغير الحكم بتغير الوصف، إذ انصرفت همة ذلك الملك عن غصب تلك السفينة لما تغير حكمها من الصلاح إلى العيب، فتغير وصف همته من العقد إلى الحل لما تغير وصف السفينة من الصلاح إلى العيب، وذلك جار على قياس العقل الصريح إذ تتغير الأحكام تبعا لتغير الأوصاف، فالحكم يدور مع علته، التي هي وصف مؤثر في إيجاده، يدور معها وجودا، فذلك الطرد، فيأخذ كل سفينة لعلة الصلاح، وعدما، فذلك العكس، فلا يأخذ كل سفينة لعلة ضد الصلاح من العيب، وشرط العلة أن تكون مطردة منعكسة كما قرر ذلك أهل الأصول في مبحث العلة من باب القياس.

وتلك من دلالة العناية الخاصة بأولئك النفر إذ سخر الله، عز وجل، لهما نبيين كريمين ليحدث أحدهما في السفينة ما ظاهره الفساد باعتبار الحال، ولكنه بما أوتي من وحي النبوة، قد علم أن الخير، كل الخير، في ذلك باعتبار المآل، ولا يعلم ذلك إلا بالوحي المعصوم، فلا حجة فيه لمن استدل بما وقع من الخضر عليه السلام، على مخالفة الظاهر للباطن، فتكون الحقيقة على خلاف الشريعة، فلم يعب ويقتل الخضر عليه السلام إلا بوحي، ولم يكن مستنده في ذلك ذوق أو كشف أو إلهام ليصح الاعتماد على تلك المصادر المضطربة في المعرفة دون المصدر المطرد المنضبط: الوحي المعصوم.

وَأَمَّا الْغُلَامُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينَا أَنْ يُرْهِقَهُمَا طُغْيَانًا وَكُفْرًا: فذلك جار على ما تقدم من التفصيل لما أجمل من فعله عليه السلام، و: "أل" في الغلام عهدية على ما اطرد في السفينة، فكان أبواه مؤمنين، وقدر الله، عز وجل، أن يكون سبب ضلالهما بل وكفرهما إن عاش، فكان من كمال العناية الربانية بهما، أن بعث النبي الكريم ليقتله، فذلك من درء المفسدة العظمى بارتكاب المفسدة الصغرى، وتلك، كما تقدم مرارا، خلاصة علوم النبوات، فإن قتله لا يخلو من مفسدة قد تكون عظيمة باعتبار الحال، ومع ذلك قدر الله، عز وجل، فيها المصلحة الأعظم أثرا

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير