يقول ابن تيمية، رحمه الله، في معرض بيان ذلك المسلك الفاسد في الاستدلال بإقحام المنامات والكشوفات في التشريع: إحكاما لما لم تحكمه النبوات، ونسخا لما قررته بأوفى بيان، فقد جعلوا محكم كلام النبوات متشابها!، ومتشابه مقالاتهم الفاسدة محكما يؤول الوحي بما يوافقه، يقول في معرض بيان ذلك المسلك الفاسد:
"فإن المسلمين لا يجوزون لأحد بعد محمد صلى الله عليه وسلم أن يغيروا شيئا من شريعته فلا يحلل ما حرم ولا يحرم ما حلل ولا يوجب ما أسقط ولا يسقط ما أوجب بل الحلال عندهم ما حلله الله ورسوله والحرام ما حرم الله ورسوله والدين ما شرعه الله ورسوله بخلاف النصارى الذين ابتدعوا بعد المسيح بدعا لم يشرعها المسيح عليه السلام ولا نطق بها شيء من الأناجيل ولا كتب الأنبياء المتقدمة وزعموا أن ما شرعه أكابرهم من الدين فإن المسيح يمضيه لهم، (على طريقة امتناع حل ساكن السماء ما عقده نوابه في الأرض!)، وهذا موضع تنازع فيه الملل الثلاث المسلمون واليهود والنصارى كما تنازعوا في المسيح عليه السلام وغير ذلك.
فاليهود: لا يجوزون لله سبحانه وتعالى أن ينسخ شيئا شرعه.
والنصارى: يجوزون لأكابرهم أن ينسخوا شرع الله بآرائهم.
وأما المسلمون: فعندهم أن الله له الخلق والأمر لا شرع إلا ما شرع الله على ألسنة رسله وله أن ينسخ ما شاء كما نسخ بالمسيح ما كان شرعه للأنبياء قبله.
فالنصارى تضع لهم عقائدهم وشرائعهم أكابرهم بعد المسيح كما وضع لهم الثلاث مائة وثمانية عشر الذين كانوا في زمن قسطنطين الملك الأمانة التي اتفقوا عليها ولعنوا من خالفها من الأريوسية وغيرهم". اهـ
بتصرف من: "الجواب الصحيح"، (1/ 205، 206).
ويحكي طرفا من حالهم فيقول:
"وزعموا أن بعض أكابرهم رأى ملاءة صور له فيها صور الحيوان وقيل له: كل ما طابت نفسك ودع ما تكره وأنه أبيح لهم جميع الحيوان ونسخوا شرع التوراة بمجرد ذلك فالحلال عندهم ما اشتهته أنفسهم والحرام عندهم ما كرهته أنفسهم". اهـ
"الجواب الصحيح"، (1/ 419).
ويقول في "اقتضاء الصراط المستقيم":
"ولهذا تجد نقل العلماء لمقالاتهم، (أي: النصارى)، وشرائعهم تختلف، وعامته صحيح، وذلك أن القوم يزعمون أن ما وضعه رؤساء دينهم، من الأحبار والرهبان، من الدين فقد لزمهم حكمه، وصار شرعاً شرعه المسيح في السماء، فهم في كل مدة ينسخون أشياء، ويشرعون أشياء من الإيجابات والتحريمات، وتأليف الاعتقادات، وغير ذلك، مخالفاً لما كانوا عليه قبل ذلك، زعماً منهم أن هذا بمنزلة نسخ الله شريعة بشريعة أخرى، فهم واليهود في هذا الباب وغيره على طرفي نقيض: اليهود تمنع أن ينسخ الله الشرائع، أو يبعث رسولاً بشريعة تخالف ما قبلها، كما أخبر الله عنهم بقوله: {سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا}. والنصارى تجيز لأحبارهم ورهبانهم شرع الشرائع ونسخها، فلذلك لا ينضبط للنصارى شريعة تحكى مستمرة على الأزمان". اهـ
ولا أدل على ذلك من استمرار النسخ في شريعة النصارى إلى عصرنا الحاضر فتبرئة اليهود من دم المسيح عليه السلام، على ما يعتقده النصارى من فرية الصلب، خير شاهد على ذلك، وهو نسخ لأمر متواتر عند الأمم الثلاثة، وهو العداوة لا الصلب المزعوم، فعداوتهم للمسيح، عليه السلام، وسعيهم في دمه عند الرومان أمر قد تواتر حتى صار رفعه: رفعا لما لا يرفع شرعا ولا حسا، إذ ما وقع لا يرفع، إلا على طريقة من يسفسط فينكر ما أفاد العلم الضروري من المتواترات الخبرية والمشاهدات الحسية، فهذا يعالج إن كان مجنونا ويعزر إن كان متعنتا مجادلا بالباطل.
ومن الدراسات المعاصرة، أشار صاحب رسالة "العلمانية"، حفظه الله وسدده وأتم شفاءه، إلى جملة من تلك المسالك بقوله:
"تزعم الكنيسة أن المسيح قال لبطرس كبير الحواريين: "أنت بطرس وعلى هذه الصخرة أبني كنيستي وأبواب الجحيم لن تقوى عليها وأعطيك مفاتيح ملكوت السموات فكل ما تربطه على الأرض يكون مربوطاً في السموات وكل ما تحته على الأرض يكون محلولاً في السموات".
¥