تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

والابتداع في المقالة والتعصب لها وامتحان الناس بها، كما تقدم، أمر ظاهر في مسلك من بدل دين المسيح عليه السلام من التوحيد إلى نقيضه، وهو أمر قد سرى إلى أصحاب المقالات الحادثة فإنه ما من مبتدع إلا وقد عقد لواء الولاء لمن يوافقه والبراء ممن يخالفه بلا مستند صحيح من نقل أو عقل، فيمتحن هو الآخر غيره بمقالته، والجهل والابتداع والغلو والتعصب والبطش بالمخالف بلا وجه حق، كل أولئك من السمات العامة التي يشترك فيها أصحاب المقالات في سائر الديانات فهو مسلك أممي عام لا اختصاص لدين دون دين به، وإن كان حال أهل القبلة فيه خيرا من حال غيرهم من أصحاب الديانات الأخرى، فلا يستوي مبتدع من أهل التوحيد في الجملة، ومبتدع من أهل التثليث أو التشريك .... إلخ، وبعض الشر أهون من بعض.

والرب، جل وعلا، كما يقول بعض أهل العلم، لا يتعبد خلقه بالوقائع وإنما يتعبدهم بالشرائع، فلا تصلح واقعة فردية، وإن كان صاحبها صادقا وإن وجد لها أثرا صالحا، لا تصلح شرعا عاما للجماعة وإلا تعددت الشرائع بتعدد التجارب الشخصية كما هو حال كثير من أهل الطريق الذين خاضوا تجارب وجدانية وضعوا لها قواعد في السلوك فلا يصل المريد إلى ما وصلوا إليه إلا بالسير عليها، فتعددت المسالك، وليس لدين الإسلام إلا مسلك واحد.

والشاهد أن ذلك من كمال عناية الرب، جل وعلا، بذينك الأبوين المؤمنين فوصف الإيمان معتبر فهو الوصف المؤثر في حصول تلك العناية الربانية بفعل ظاهره المحنة وباطنه المنحة، فنجي الصغير إذ مات قبل جريان قلم التكليف، ونجي الأبوان من الكفر باتباعه على ضلاله، وذلك، كما تقدم، لا يكون إلا بوحي رباني.

ومن كمال أدب الخضر عليه السلام أن نسب الإرادة في فعل القتل إليه، فذلك الشر في الفعل البشري المخلوق، وإن كان نسبيا باعتبار ما يتولد منه من الخير الآجل، ولكن لما لحقه وصف الشر، ولو من وجه تأدب الخضر عليه السلام مع ربه، عز وجل، فنسب ما ظاهره الشر إليه قطعا لاحتمال نسبة الشر إلى الرب، جل وعلا، على جهة الفعل، ولو احتمالا مرجوحا، فالاحتياط في مثل تلك المواضع: حتم لازم، فلا ينسب الشر إلى الرب، جل وعلا، إلا على جهة الخلق، فالشر ليس إليه فعلا، وإن كان منه خلقا، ونسب فعل الخير المحض إلى الرب جل وعلا، مع أنه، تبارك وتعالى، خالق كلا الفعلين، فنسبة الخير إلى الرب، جل وعلا، من وصف الكمال المطلق الذي لا يلزم له ما يلزم من نسبة فعل الشر إليه، تبارك وتعالى، فإنه، كما تقدم، لا يكون إلا بقيد: الخلق لا الفعل، فهو خالق الفعل بمشيئته، وإن لم يفعله أو يرده شرعا، فأراده تكوينا ولم يرده تشريعا، ومشيئته، عز وجل، له، مع ذلك، لا تخلو من الخير باعتبار مآله كما تقدم بيانه.

ثم ظهرت أبلغ وجوه العناية الربانية في تأويل الفعل الثالث الذي أشكل على الكليم عليه السلام:

وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلَامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا: فصلاح الأب قد حفظ الذرية، فشملتها العناية الربانية الخاصة فبعث عليه السلام ليحفظ لهما المال بإقامة الجدار، وكان من معهود أدبه أن نسب الفعل هذه المرة برمته إلى الرب، جل وعلا، فهو من الخير المحض الذي لا يتطرق إليه الشر من وجه فصحت بل وجبت نسبته إلى الرب، جل وعلا، فقد اجتمعت فيه الإرادتان فهو مما أراده الرب، جل وعلا، كونا فأوجده، وأراده شرعا فأحبه ويسر لنبيه، عليه السلام أسباب فعله. فتلك: رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ: نكرت تعظيما وأضيفت إلى الرب، جل وعلا، فذلك أليق بمقام العناية فالنعم الكونية والشرعية من ربوبيته، عز وجل، لخلقه، بإجراء أسباب صلاح الدين والدنيا عليهم، فذلك من الرزق الذي يجريه، عز وجل، على من شاء من عباده فضلا، ويقطعه عمن شاء منهم عدلا.

ثم احترس بقوله: وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا: من أن يظن بأنه المستقل بإرادة تلك الأفعال التي لا تصح، كما تقدم، إلا فرعا عن وحي معصوم، فهي من الغيب الذي لا تدركه العقول بقياسها ليصح لها فيه اجتهاد بفعل أو ترك.

وتلك الصور وإن كانت خاصة من وجه إلا أن فيها وجه لطيفا للعناية العامة، فهي مما يصح وقوعه لكل من اتقى الرب، جل وعلا، فيجعل له من أمره يسرا، فقد يعطب الملك، كما عطبت السفينة، ويكون صلاح الحال في ذلك باعتبار المآل لا الحال، وقد يسلب الإنسان نعمة من ولد أو زوج أو مال، ويكون الصلاح كل الصلاح له في ذلك، وأما صلاح الآباء فهو مما يثمر في الأبناء فتظهر بركة الطاعة في الولد كما يظهر شؤم المعصية فيه وهو أمر ظاهر في زماننا وقد عظم شؤم الولد وظهرت صور من العقوق لم يسلم منها أحد تقريبا إذ لم يسلم بيت من بيوت المسلمين إلا ما رحم الرب، جل وعلا، من شؤم المعاصي.

والله أعلى وأعلم.

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير