تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

ومن قوله تعالى: (إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيًّا):

فرحمة الرب، جل وعلا، وهي وصف من أوصافه، أو أثر من آثارها المخلوقة، وهو إجابة دعائه فذلك جار على ما تقدم من دلالة العناية الخاصة بالنبي الكريم: زكريا عليه السلام، فـ: "إذ": ظرف الرحمة الربانية، أو هو بدل مبين لإجمال رحمة الرب، جل وعلا، فرحمته، هي إجابة ذلك النداء الخفي الذي سمعه الرب، جل وعلا، فلا تخفى عليه أصوات الداعين، فذلك من سمعه، عز وجل، سمع الإجابة، وهو أشرف أنواع وصف السمع الرباني، ثم جاء بيان هذا النداء مطنبا فذلك مما يقتضيه سياق الدعاء فبسط العبارة في إظهار الذل والفقر والفاقة والضراعة مما يناسب حال الداعي، وكلما ازدادت عبوديته ازداد إظهاره لضعفه وتبريه من حوله وطوله، والأنبياء، عليهم السلام، كزكريا، عليه السلام، أولى الناس بهذا الوصف، فهم أعبد الناس لربهم لكونهم أعلم الناس به، فعندهم من العلم بأوصاف الرب، جل وعلا، جمالا ما يحملهم على الرغبة فيما عنده، وهو ما كان من زكريا عليه السلام فلم يستبعد وقوع تلك الخارقة الكونية فذلك على الله، عز وجل، يسير، فهو القدير على الإيجاد من العدم، ذو الفضل الكبير، يهب من شاء بفضله، ويمنع من شاء بعدله، وعندهم من أوصاف جلاله ما يحملهم على الرهبة فهم أتقى الناس له، جل وعلا، وأشدهم خشية من عذابه، فأطنب عليه السلام بقوله: رَبِّ: فمقام طلب الولد يناسبه تصدير الدعاء بوصف الربوبية، فالرب، جل وعلا، هو الذي يهب ويمنع، ففعل الربوبية في هبة الولد خلقا في الرحم وخروجا إلى الدنيا وغذاء للبدن والروح، كل أولئك من فعله، عز وجل، وربوبيته، عز وجل، إنما تظهر آثارها في أفعاله في خلقه، بكلماته الكونيات، إيجادا بالإحياء أو إهلاكا بالإماتة، فهو الرب المحيي المميت، المنشئ من العدم، المفني للأعيان فتصير إلى تحلل وزوال، فلكل فعل كلماته، ولكل خلق تقديره في الأزل، والسعيد من استدعى مقدور الخير بالمداومة على الطاعة، وسؤال الرب، جل وعلا، خير الدين والدنيا، واستدفع مقدور الشر بسؤال الله، عز وجل، السلامة حيث تكون سلامة حقيقية للدين والدنيا لا سلامة متوهمة لبدن يحيى صاحبه برسم الذل فحياته من جنس الحياة الحيوانية، فلا يغضب إلا لاحتياجاته الغريزية من مأكل ومشرب ومنكح، ولكل همته، ولكل عمل قد يسر له فمن الناس من يسر للدفاع عن المقدسات ومنهم من يسر للجلوس على الطرقات.

فأطنب، عليه السلام، كما تقدم، في وصف الضعف في معرض التضرع طلبا للولد: فـ: إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي: فـ: "أل" في: "العظم"، كما يقول صاحب "التحرير والتنوير" رحمه الله، جنسية استغراقية فقد عم الوهن عظامه كلها، وذلك أبلغ في بيان ضعفه، وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا: فخص المحل وهو الرأس بفعل الاشتعال، وإنما المشتعل الشيب على سبيل الاستعارة المكنية التبعية في الفعل: "اشتعل" إذ شبه سريانه في الرأس باشتعال النار، فذلك مئنة من سرعة الانتشار وعمومه، ثم حذف المشبه به وهو النار، وكنى عنه بوصف من أوصافه هو محط الفائدة وهو: الاشتعال فهو، كما تقدم، مئنة من الانتشار، أو يقال بأن الاستعارة أصلية في الفعل: "اشتعل" الذي استعير لمعنى السريان أو الانتشار، فذلك، كما تقدم أبلغ في بيان عموم الفعل للمحل، فضلا عما تقدم من إسناد الفعل إلى الرأس: محل الشعر، وليس إلى الشعر نفسه، فهو آكد في بيان عموم الشيب للرأس، ولازم ذلك التقدم في العمر الذي يصاحب وهن العظم، فالإطناب بذكر أوصاف الكبر أليق، كما تقدم، في مقام التضرع والطلب، فأصل الكلام قبل التحويل: واشتعل شيب الرأس، فالتمييز محول عن الفاعل، فيكون إسناد الفعل إليه من باب المجاز العقلي، عند من يقول بالمجاز، ومن ينكر المجاز فإنه يقول: إن التشبيه، والاستعارة من صوره فهي تشبيه قيد بحذف أحد طرفيه، حقيقة في طرفيه، على الراجح من أقوال البلاغيين، فاشتعال النار حقيقة فيها، وسريان الشيب في الرأس حقيقة فيها، وإسناد فعل الاشتعال إلى المحل يدل لزوما على اشتعال الحال فيه وهو الشعر، فالمعنى قد تحقق في الذهن دون حاجة إلى وسائط عقلية من علائق وقرائن مجازية، فالمراد وهو عموم الشيب للشعر

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير