تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

ثم أطنب في بيان ضعف زوجه عن الإنجاب بعد أن أبان عن ضعفه بوهن العظم وشيب الرأس فـ: كَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا، والإتيان بالماضي: "كان" مئنة من لزوم الوصف لها، كما ذكر ذلك صاحب "التحرير والتنوير" رحمه الله، وذلك جار على ما تقدم من الإطناب في وصف المانع من الولد، فلا يطلبه بعد ذلك إلا من حسن ظنه بالله، عز وجل، وقوي يقينه به، فيدعوه تحقيقا لا تجريبا، كما يقع من كثير منا فقد صار الدعاء إما عبادة محضة، وهو كذلك بالفعل ولكنه لا يخلو من معنى الرجاء في المدعو، واليقين من إجابته دعاء الداعي له برسم الجزم، وإما أداء واجب فهو من قبيل تعليق الأمر على المشيئة تبركا، فأنى يستجاب دعاء هذا وصفه؟!، ثم ذيل بالطلب بعد هذا الإطناب:

فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا: وقدم: "لي" لكونه محط الفائدة فغرض الداعي حظ نفسه، وإن كان شرعيا، ثم جاء الإطناب في بيان وصف الولد بجملة: يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آَلِ يَعْقُوبَ: على ما تقدم من معنى الوراثة، وقرأ بعض القراء بالجزم في: "يرثني"، فمعنى السببية في السياق ظاهر، فهب لي على جهة الدعاء، ومن ثم جزم الأمر في جوابه فهو جواب الشرط المحذوف الذي دل عليه الأمر، وجواب الشرط مئنة من المسبَّبِية فهو محط الفائدة الذي تولد من سببه الذي هو الشرط المحذوف، فعلة طلبه ما تقدم، ومعنى العلية مستفاد من كلا الوجهين، سواء بالجزم في جواب الطلب، أو بالوصف، فإن الوصف تخصيص للموصوف بمعنى بعينه وذلك مئنة من كونه محط الفائدة إذ لم يعلق الحكم على الموصوف مطلقا، وإنما على الموصوف بقيد وصفه، فهو العلة الباعثة على السؤال حقيقة، فليست علة السؤال مجرد طلب الولد وإن كان فاسدا، وإنما طلب وريثا لعلوم النبوات، ثم ذيل بالدعاء: وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا، أي مرضيا عندك بالقول والفعل، وتوسيط وصف الرب بين مفعولي: "اجعل"، جار على ما تقدم، من استدعاء الجواب بالتوسل بأسماء وأوصاف الربوبية اللائقة بهذا المقام، ففيه مزيد عناية من الداعي، كما أشار إلى ذلك أبو السعود رحمه الله. وتلك من علو همته، عليه السلام، فهمته في الطلب ليست كهمة آحاد البشر ممن يلتمسون الولد، ولو كان طالحا، فمرادهم منه التفاخر والزينة، وليس لهم فيه نية صالحة، كما هو حال أغلب الآباء في الأعصار المتأخرة، فلا يريد الولد إلا شهوة، ولذلك ظهر في الأعصار المتأخرة، لا سيما في عصرنا، من صور العقوق ما ظهر، فعومل الآباء بنقيض مقصودهم حتى تمنى كثير منهم هلاك الولد الذي كانوا يتمنونه بالأمس ليستريحوا من شؤمه وسوء أخلاقه!. وما ذلك إلا لفساد التصور لمعنى الذرية، فهي وسيلة وليست غاية، فبها يعمر الكون وتقام الدنيا برسم الدين، فكيف إن لم يكن للأب عناية بالدين ابتداء، أنى يرجو صلاحا من نسله؟!، ولم يبذل السبب ويبذر البذر النافع، وإنما بذر النطفة كما يبذر البهيم نطفته في رحم أنثاه، فجاء الولد الذي اعتنى باحتياجاته المادية برسم الخدمة التي يشترك فيها الإنسان والبهيم، لا التربية التي يختص بها جنس الآدميين!. وقد يخرج الصالح من الطالح، ولكن الرب، جل وعلا، قد أقام هذا الكون على سنن كوني محكم، فأنى يرجو من لم يبذل الجهد في تنمية الثمر: أنى يرجو ثمرا صالحا سالما من الآفات؟!. ثم جاءت البشرى على تقدير قول محذوف كما أشار إلى ذلك صاحب "التحرير والتنوير"، رحمه الله، فقلنا: يَا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَامٍ اسْمُهُ يَحْيَى لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا: فذلك جار على ما تقدم من دلالة الإيجاد المعجز فكل أسباب التناسل قد فقدت، فالأب شيخ والأم عاقر لا تلد، ومع ذلك امتن الرب، جل وعلا، على عبده زكريا، عليه السلام، بالولد، فتلك من عنايته الخاصة بأنبيائه، عليهم السلام، كما تقدم، ولا يخلو المعنى من عموم يشمل غيرهم فكم من شيخ قد دعا الله، عز وجل، فجاءه الولد على الكبر، والرب القدير لا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء فيصور الأجنة في الأرحام كيف يشاء.

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير