تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

فبشره بغلام وأمره بتسميته يحيى، فالخبر جار مجرى الإنشاء، كما ذكر ذلك صاحب "التحرير والتنوير"، رحمه الله، وجعل له من السمات ما لم يكن لمولود قبله، ولا يلزم من ذلك أنه أفضل الأنبياء عليهم السلام، فالأفضلية من وجه أو وجوه لا تعني الأفضلية من كل الوجوه، فقد يكون المفضول فاضلا في خصلة من خصاله من هو أعلى منه منزلة، فيكون فاضلا من هذا الوجه خصوصا، لا من كل وجه عموما، فليس يحيى، عليه السلام، بأفضل من أولي العزم عليهم السلام، بداهة، وإن كان له من بعض خصال الفضل ما ليس لهم، فلم يؤت أحد منهم النبوة صبيا، فذلك مما امتاز به عنهم، ولم يلزم من ذلك أنه مقدم عليهم في الرتبة، بل هم أفضل منه وأعلى منزلة بالإجماع دون أن يلزم من ذلك قدح في المفضول على ما اطرد من كلام أهل العلم في مسألة التفاضل بين الأنبياء عليهم السلام.

فتعجب زكريا عليه السلام من هذه الآية الكونية الباهرة الدالة على عظم قدرة الرب، جل وعلا، على الإيجاد، وإن لم تكن ثم أسباب ظاهرة، بل الظاهر المحض شاهد بضد ذلك لمن تعلق بالأسباب وغفل عن ربها إيجادا وإجراء، فتعجب بقوله:

رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ: فوصف الربوبية قد اطرد في دعائه، من أول السياق إلى منتهاه، وهو أليق بمقام التعجب على جهة التعظيم، للرب القدير، جل وعلا، فكيف يكون لي ولد، أو من أين، أو متى، على ما اطرد من دلالة: "أنى" في كلام البلاغيين، وكلها معان صحيحة في هذا السياق، فدلالة التعجب من كمال القدرة الإلهية في جميعها ظاهرة، وذلك جار على ما سبقت الإشارة إليه في مواضع أخر، من حمل اللفظ الواحد على معان متعددة ما لم يوجد المانع من قرينة سياق أو حال، فذلك مئنة من ثراء الكتاب العزيز بسعة معانيه مع وجازة مبانيه.

قَالَ كَذَلِكَ قَالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ: فالرب، جل وعلا، قدير على كل ممكن، لا يعجزه خلق، فـ: قَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئًا: فيكون خلق يحيى، عليه السلام، جائزا من باب أولى، فذلك جار مجرى قياس الأولى، إن نظر إلى أصل خلقة الإنسان، فمن خلق ابتداء من العدم قادر على الخلق من أب وأم من باب أولى، وجار مجرى القياس المساوي إن نظر إلى خلق زكريا، عليه السلام، بعينه، فقد خلق من أب وأم، ولم يك شيئا، فكذلك يحيى، فاشتركا في الأصل العدمي فمن أوجد الأول قادر على إيجاد الثاني، وفي السياق رد على الفلاسفة الذين قالوا بقدم الجواهر وتوالي الأعراض عليها فمادة الكون عندهم قديمة لا يحدث الرب، جل وعلا، فيها خلقا بعد خلق، على أصلهم في اقتران المعلول بعلته، إذ جعلوا علة صدور هذا العالم هو ذات الرب، جل وعلا، لا أوصافه الفاعلة التي تصدر عنها كلماته الكونية النافذة، كما تقدم في أكثر من موضع، فقالوا بقدم جواهر العالم وإنما تتوالى الأعراض عليها، فكأن المادة واحدة لا تفنى ولا تستحدث من العدم، وإنما الخلق هو مجرد تشكيل لها لتصير زيدا أو عمرا أو حجرا أو شجرا، وذلك أمر ينكره الشرع والعقل والحس الذي يدرك من آثار إيجاد الرب، جل وعلا، للكائنات من العدم ما يدرك، فتلك من أقوى الأدلة في عالم الشهادة على كمال ربوبيته، عز وجل، إيجادا وتدبيرا لخلقه.

والله أعلى وأعلم.

ـ[مهاجر]ــــــــ[18 - 03 - 2010, 08:28 ص]ـ

ومن قوله تعالى: (قَالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آَيَةً قَالَ آَيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَ لَيَالٍ سَوِيًّا):

فطلب الآية الكونية ليطمئن قلبه فهي من جنس آية الخليل عليه السلام، ونكرت الآية تعظيما، باعتبار صدورها من الرب القدير، جل وعلا، فلا يقدر على الآيات الكونية في معرض التكريم والتثبيت والتأييد لرسله عليهم السلام إلا هو، فهي داخلة في حد دلالة الإيجاد المعجز، وفي الآية دليل لمن نفى اقتصار الآيات الكونية التي يجريها الرب، جل وعلا، على أيدي رسله، عليهم السلام، على التحدي، فقد تكون تثبيتا ببث الطمأنينة في قلب النبي، كما في هذه الآية، وقد تكون إعانة للنبي والمؤمنين معه، كما في آية تكثير الطعام يوم الخندق، فقد كانت رحمة بالجيش الذي حقق شرط الإيمان المنجي فتوالت عليه رحمات الرب المنعم جل وعلا فحفظ بهذه الآية من الهلاك بسبب الجوع، ثم جاء التأييد

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير