تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

الكوني بريح الصبا، فارتحل العدو عن المدينة، وسلم الله، عز وجل، النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم والذين آمنوا معه، فكانت تلك، أيضا، من أدلة العناية الخاصة بالمؤمنين بنصرهم على عدوهم، فهو على ذلك قدير، فأرسل جنده الكوني، و: (وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ)، على أعدائه فهزموهم بإذن الله، وألقي الرعب في قلوبهم وقلعت الريح خيامهم، فالآيات الكونية التي تجري على أيدي الرسل، عليهم السلام، لا تقتصر، كما تقدم، على نوع دون آخر، وإن كان أكثرها وقوعا ما يقع في معرض التحدي للمكذبين كناقة صالح وعصا الكليم وخلق المسيح للطير ونفخه فيه الحياة بإذن الرب جل وعلا وشق القمر للأمين عليهم الصلاة والسلام جميعا.

فجاء الجواب عقيب طلب زكريا عليه السلام، وتلك أيضا، من دلائل الربوبية عموما، فإجابة دعاء الداعين من أظهر أدلة الحس على وجود الرب، جل وعلا، فهو القريب يجيب دعوة الداعي، برسم الإيمان فـ: (وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ)، ورسم الانتصار للمظلوم من ظالمه فـ: "اتَّقُوا دَعْوَةَ الْمَظْلُومِ فَإِنَّهَا تُحْمَلُ عَلَى الْغَمَامِ، يَقُولُ اللَّهُ جَلَّ جَلالُهُ: وَعِزَّتِي وَجَلالِي لأَنْصُرَنَّكَ وَلَوْ بَعْدَ حِينٍ"، بل ورسم إجابة المضطر ولو كان كافرا: (وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكَانَ الْإِنْسَانُ كَفُورًا)، فـ: آيتك ألا تكلم الناس ثلاث ليال مجتمعة، أو حال كونك سويا سالما من الآفات فليس امتناعك عن الكلام لعلة، وإنما آية كونية فيمسك اللسان حال الكلام، ويطلق حال التسبيح، و: "سوي"، كما ذكر صاحب "التحرير والتنوير" رحمه الله، فعيل بمعنى مفعول فيستوي فيه الذكر والأنثى، ويستوي فيه المفرد والجمع، فذلك جار على ما تقدم مرارا من وقوع مجاز التعلق الاشتقاقي بتبادل الصيغ وحلول بعضها محل بعض إما بأصل الوضع اللغوي، وإما لنكتة معنوية كزيادة في معنى فرعا عن زيادة في مبنى، وذلك الغالب في صيغ المبالغة، فهي من اسمها تدل على المبالغة في المعنى الذي صيغت منه. فقد يقال هنا بأن الحال قد وردت مؤكدة لسلامته عليه السلام من الآفات فإمساك لسانه: آية كونية لا عاهة بدنية، والحال إذا كانت فضلة فهي جارية مجرى الوصف الكاشف للمعنى، وفيه هنا احتراس من إصابته عليه السلام بعلة مانعة من الكلام في موضع يظن فيه ذلك فناسب ذلك التوكيد بصيغة المبالغة على حصول السلامة وانتفاء ضدها من العلة. ومنكر المجاز على أصله المطرد بأن حصول المعنى المراد في الذهن ابتداء دون حاجة إلى علائق وقرائن كاف في الحكم على استعمال الكلمة على جهة الحقيقة فهي مما اشتهر في لسان العرب ولو على خلاف دلالتها المعجمية، والاشتهار ينزل المجاز المشتهر منزلة الحقيقة العرفية، فعرف اللسان قد صير ما استعمل على غير دلالته المعجمية، قد صيره: حقيقة فيما استعمل له.

ومثله: استعمال: "فعيل" بمعنى فاعل فيما يستوي فيه المفرد والجمع من قبيل قوله تعالى: (وَإِنْ تَظَاهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلَاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلَائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ)، أي: مظاهر معاضد، والسياق أيضا: سياق عناية خاصة بالانتصار للنبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم من أزواجه، رضي الله عنهن، اللاتي تظاهرن عليه فيما يقع بين النساء من أمور الغيرة، فناسب ذلك في معرض مدافعة الأذى عنه صلى الله عليه وعلى آله وسلم، ولو بذلك الأمر المعتاد بين النساء، ناسب ذلك الإتيان بصيغة المبالغة مئنة من كمال عنايته، عز وجل، بنبيه صلى الله عليه وعلى آله وسلم، فغار الرب، جل وعلا، على نبيه صلى الله عليه وعلى آله وسلم أن يمس بأذى، ولو خفيفا، ولم يَغَرْ كثير منا وقد نيل من شخصه الكريم وعرضه الطاهر، في هذا العصر، فنال أهل البدع المغلظة من عرض نسائه، رضي الله عنهن، ونال الكفار الأصليون من شخصه صلى الله عليه وعلى آله وسلم.

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير