تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

ومن قوله تعالى: (فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرَابِ فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا): فأشار إليهم، إشارة جاء بيانها مصدرا بـ: "أن" التفسيرية، فجاء البيان عقيب الإجمال بالأمر بالتسيبح ليلا ونهارا، فذلك مئنة من الفلاح في أمر الدين والدنيا، فمداومة الذكر صلاح للدين، فانشراح صدر، وادخار أجر، وصلاح للدنيا فـ: (فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا (10) يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا (11) وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا)، والاستغفار نوع من الذكر فهو سابق التسبيح سَبْقَ التخلي للتحلي، فتخلية للمحل بالاستغفار من الذنوب، وتحلية له بالتسبيح ثناء على الرب، جل وعلا، وذلك أمر مطرد في الذكر: فالنفي لوصف النقص إجمالا، وذلك من التخلية سابق لإثبات وصف الكمال مفصلا، فذلك من التحلية، فنفي مجمل يأتي عقيبه إثبات مفصل، بل الشهادة التي يصير بها الإنسان مسلما قد صدرت بالنفي المجمل فـ: لا إله، فذلك مئنة من العموم إذ نفي الجنس من صيغ العموم، فالنكرة في سياق النفي: تخلية عامة بإبطال أحقية غيره، جل وعلا، بالألوهية والعبادة، فلا إله معبود بحق، ثم جاء الإثبات عقيب أداة الاستثناء، فالاستثناء عقيب النفي مئنة من الإثبات، بل من الحصر، فتلك تحلية خاصة بالرب، جل وعلا، فهو المعبود بحق لا سواه، إذ هو الرب الخالق المدبر فلا رب موجد بقدرة نافذة، مدبر بحكمة بالغة إلا هو.

ومادة الوحي، مادة كلية تدل على الإعلام بخفاء، وقد وردت في التنزيل على معان جزئية تؤول إلى هذا المعنى الكلي، فالوحي المعهود: إعلام من الرسول الملكي إلى الرسول البشري، والوحي أمر من الرب، جل وعلا، إلى جنده، فـ: (إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلَائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آَمَنُوا)، والوحي إلهام للعاقل فـ: (وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ)، ولغير العاقل: (وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا)، والوحي: وسوسة شيطان لا تخلو من معنى الإعلام ولو بالسوء فـ: (وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ). وهذا أمر قد اطرد في الكتاب العزيز كما سبقت الإشارة إلى ذلك في مواضع أخر، فإن المادة الكلية تقبل الانقسام إلى معان جزئية يعينها السياق، وذلك مئنة من سعة لسان العرب بتعدد دلالات ألفاظه تبعا للسياقات التي ترد فيها.

ثم انتقلت الآية إلى بيان ضرب آخر من ضروب العناية الخاصة بنبي آخر، هو يحيى عليه السلام:

يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ وَآَتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا:

فأمر، ولما يبلغ الحلم، أن يأخذ العلم من التوراة بقوة، فـ: "أل" في: "الكتاب": عهدية تشير إلى كتاب بني إسرائيل الجامع، فالتوراة عمدة نبوات بني إسرائيل، فما من نبي من أنبياء بني إسرائيل إلا وأخذ بالتوراة، فهو مجدد لما اندرس من آثارها التي أدمن أحبار السوء تحريفها، فكتبوا بأيديهم ما لم ينزل به الروح الأمين على قلب الكليم عليه السلام، لا سيما زمن السبي، ليشتروا به ثمنا قليلا، وحتى المسيح عليه السلام مع كونه صاحب كتاب منزل، فإنه أحال على التوراة في مواضع كثيرة، فنسخ بعض أحكامها برسم التخفيف عن بني إسرائيل كما في قوله تعالى: (وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ). وقيد الأخذ بالقوة، وهو مئنة من الاعتناء فاستعير للفهم والتدبر، فصاحبه له آخذ عن أهل العلم قد تحمله فكابد في سبيل ذلك مشاقا جمة، فحري به أن يأخذه بقوة، فلذلك صار الحال هنا عمدة من جهة المعنى وإن كان فضلة من جهة اللفظ فالجملة قد اكتملت أركانها بالفعل والفاعل المستكن فيه: خُذِ، والمفعول: "الْكِتَابَ"، إذ ليس المراد أي أخذ، فكم من أحبار ورهبان وعلماء سوء وما أكثرهم في زماننا قد أخذوا الكتاب، ولكن

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير