تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

لتحصيل رياسة أو جاه، أو مطعم سحت فتأكل بما أوتي من العلم، فهو والكلب سواء: (فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ)، فلهاثه طلبا للحطام الفاني لا ينقطع.

ثم جاء التذييل بالمنة التي اختص بها يحيى عليه السلام، على ما تقدم بيانه من تفاضل الأنبياء باعتبار مجموع الخصال لا جميعها فقد يؤتى المفضول خصلة ليست للفاضل، ومع ذلك لا يكون أفضل منه، بل هو دونه، لا على جهة القدح، وإنما الأمر دائر بين الكامل والأكمل.

والحكم قد ورد استعماله في مواضع من التنزيل للدلالة على معنى النبوة، كما في قوله تعالى: (ولما بلغ أشده آتيناه حكماً وعلماً)، كما ذكر ذلك صاحب "التحرير والتنوير" رحمه الله، ثم أشار إلى وجه آخر يكون فيه الحكم على دلالته المعجمية الأولى فهو: الحكمة ودقة الفهم فتكون: "أل" في الوجه الأول: عهدية تشير إلى جنس بعينه من الحكمة، هو أشرف أجناسها، وهو: حكمة النبوة ولا حكمة تدانيها لمكان العصمة فكل حكمة دونها تحتمل الصواب والخطأ، بخلاف الحكمة المؤيدة بالوحي المعصوم فعصمتها من عصمة الوحي النازل بها، فهو من عند الرب، جل وعلا، العليم الذي قد أحاط بكل شيء علما، الحكيم الذي أنزل من النبوة بقدر ما تحتمل أودية القلوب، فسالت قلوب الأنبياء عليهم السلام بصنوف المعارف الإلهية والأحكام الشرعية بقدرها، فلكل أمة كتاب يلائم حالها، ولكل أمة شريعة تستقيم بها أمورها الدينية والدنيوية، وذلك مئنة من إحكام الوحي وحكمة الموحي إذ لم يسو بين الأمم في الشرائع مع اختلافها في الطبائع، فالحكيم، في عالم الشهادة، لا يسوي بين المتباينين، ولا يفرق بين المتماثلين، ولله المثل الأعلى فإنه أحكم الحاكمين فوصف الحكمة البالغة ثابت له من باب أولى.

وتكون: "أل" في الوجه الثاني: جنسية دالة على ماهية الحكمة، وإن كانت كما تقدم أشرف أنواعها. واختار من رجح هذا القول أن يكون يحيى قد أوتي النبوة مبكرا، ولكن ليس حال الصبا وهو لما يكلف بعد ببلوغ الحلم، فتكون حكمته من جنس دقة الفهم وسداد الرأي على نحو غير مألوف فذلك من إرهاصات نبوته عليه السلام، كما كانت حال النبي الخاتم صلى الله عليه وعلى آله وسلم، فقد طبع على أكمل الخلائق بما اختصه الرب، جل وعلا، به من خصال الكمال، بمقتضى اصطفاء المحل وتهيئته لقبول آثار أعظم الرسالات، فجاءت الرسالة الخاتمة لتقر في أشرف المحال البشرية فازداد كمالا على كماله الأول، وظهر أثر ذلك في الكون الذي جدد الرب، جل وعلا، معاني التوحيد فيه برسالة خاتم أنبيائه عليهم السلام، بعد أن اندثرت أو كادت فـ: "إِنَّ اللَّهَ نَظَرَ إِلَى أَهْلِ الْأَرْضِ فَمَقَتَهُمْ عَرَبَهُمْ وَعَجَمَهُمْ إِلَّا بَقَايَا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ".

وإمعانا في بيان عناية الرب، جل وعلا، بعبده يحيى عليه السلام، بصناعته على أكمل الأخلاق:

وَحَنَانًا مِنْ لَدُنَّا وَزَكَاةً وَكَانَ تَقِيًّا: فكان شفوقا عظيم الشفقة، فالتنكير مئنة من التعظيم وصدور الوصف من الرب، جل وعلا، جار مجرى صدور المخلوق من خالقه، فالرب، جل وعلا، هو الذي طبع عبده يحيى عليه السلام على هذه الخصال الشريفة فخلقها فيه جبلة، ثم ثنى بوصف زكاة النفس ونقائها من الخبائث، كما ذكر ذلك صاحب "التحرير والتنوير" رحمه الله، والتقوى على جهة المبالغة بالتنكير المشعر بالتعظيم، كما تقدم، وبالصيغة الدالة على المبالغة من فعل التقوى، فـ: "تقي" على وزان: "فعيل"، وهي كما تقدم، من صيغ المبالغة القياسية كما قرر ذلك الصرفيون والنحاة.

ثم أطنب بالخصلة المفقودة في زماننا، فكل إليها يفتقر، ولو كان صالح الظاهر، إلا من رحم الرب، جل وعلا، فذكرها جار مجرى الخصوص بعد العموم إطنابا في الثناء فذلك موضع يلائمه بسط العبارة بذكر أوصاف الممدوح تفصيلا فذلك آكد في بيان المنة والعناية الربانية به بطبعه على أكمل الصفات النفسانية، فـ: بَرًّا بِوَالِدَيْهِ: فالتنكير جار على ما تقدم من دلالة التعظيم، فبره بهما عظيم، وقد رزقاه بعد بلوغ الشيخوخة وفناء الشبيبة، وذلك وقت يفتقر فيه الآباء والأمهات إلى البر أكثر من أي وقت، فمن كمال النعمة أن يظهر بر الولد بوالديه حال

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير