تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

لها بشرا سويا لئلا تفزع من صورته الملائكية، فلا يقدر على رؤيتها إلا الأنبياء عليهم السلام، كما جرى للنبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم إذ رأى الروح الأمين على هيئته التي خلقه الله، عز وجل، عليها مرتين كما في حديث عائشة رضي الله عنها.

فاستعاذت بالله، عز وجل، لما وجدته من ميل طبيعي لصورة الملك الحسنة، وذلك مما لا تلام عليه، فهو أمر كائن بمقتضى الجبلة الآدمية، وإنما يلام الإنسان إذا استرسل في ذلك، ولذلك كانت النظرة الأولى للناظر على جهة الإباحة فهو مأمور بصرف البصر متى تيقن أو غلب على ظنه رؤية محرم، وليس عليه أن يتكلف غض البصر بلا حاجة، فذلك من الحرج المرفوع شرعا، لا سيما في الأعصار والأمصار التي يقع فيها الاختلاط المذموم، فيصبح غض البصر عن المحارم بالكلية أمرا محالا!، فيتحرى الإنسان ما استطاع، فإذا ضاق الأمر اتسع، والمشقة تجلب التيسير، و: "إِذَا نَهَيْتُكُمْ عَنْ شَيْءٍ فَاجْتَنِبُوهُ وَإِذَا أَمَرْتُكُمْ بِأَمْرٍ فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ"، فذلك من أظهر أدلة تلك القاعدة الكلية الجامعة، فمتى كان حرج معتبر شرعا لا متوهم، ككثير من صور الحرج المعاصرة!، متى كان الحرج المعتبر كان التيسير من الرب الرحيم الحكيم تبارك وتعالى فذلك من أدلة عنايته بالمكلفين بمراعاة أحوالهم فلا يكلف إلا بالمقدور المستطاع.

وفي الإتيان بلفظ الروح، إشارة لطيفة إلى المعجزة الكونية في خلق المسيح عليه السلام بلا أب، فالروح مادة الحياة، وتلك حياة معجزة في المنشأ، فكان من أوجه الملاءمة بين اللفظ والمعنى الإتيان باللفظ الدال على مادة الحياة دون بقية الألفاظ كالملك والرسول أو اسم الروح القدس العلم: جبرائيل عليه السلام.

قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلَامًا زَكِيًّا:

فهو الرسول المبعوث من ربها، عز وجل، فربوبيته لها ربوبية عناية خاصة، إذ اصطفاها الرب، جل وعلا، بتلك الآية الكونية الباهرة فـ: (يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ)، و: (جَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آَيَةً وَآَوَيْنَاهُمَا إِلَى رَبْوَةٍ ذَاتِ قَرَارٍ وَمَعِينٍ)، فبعث الروح القدس إليها: بعث الرسول بالكلمة التكوينية النافذة، لا بعث الرسول بالكلمة الشرعية الآمرة، فليست البتول عليها السلام نبية، فلا نبوة في النساء على الراجح من أقوال أهل العلم، بخلاف ما ذهب إليه ابن حزم ومال إليه القرطبي، رحم الله الجميع، فبعث إليها ليهبها بالكلمة التكوينية النافذة: غلاما زكيا، بل هو من أزكى الأرواح المخلوقة، فروحه روح من أرواح صفوة الصفوة فهو خيار من خيار، فالرسل، عليهم السلام، قد اصطفوا ابتداء، وأولوا العزم قد اصطفوا انتهاء، فالتنكير في "غلاما": يناسبه الحمل على التعظيم ووصف التزكية، قد جاء، أيضا، على جهة التنكير مئنة من التعظيم.

والقصر في الآية: قصر إضافي على جهة المبالغة، وهو محمول من جهة أخرى على القلب، إن كانت قد ظنت فيه الشر، فيكون ذلك أبلغ في العناية بها في موضع يضطرب فيه الفؤاد برؤية غريب في موضع خلوة فذلك مظنة الريبة والخوف، فدفع عن نفسه التهمة، وأذهب ما في نفسها من الخوف.

ففي الآية: إشارة إلى دلالة الإيجاد المعجز بخلق المسيح عليه السلام من نفخة الملك، فهي صورة السبب، فكان المسيح، عليه السلام، بالكلمة التكوينية النافذة من أنثى بلا ذكر.

وإشارة إلى وجه من أوجه العناية بالروح الأمين، عليه السلام، إذ ألهم دفع التهمة عن نفسه بذلك القصر المزدوج فقصر بـ: "إنما"، وقصر بتعريف الجزأين: "أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ"، فذلك أبلغ في تقرير معنى البراءة من وصف السوء وفعل الشر، ووجه آخر فيه العناية بالبتول عليها السلام ببث الطمأنينة في نفسها لئلا تفزع من رؤية ذلك الزائر الغريب.

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير