تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

قَالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا: فاستفهمت عن تلك الآية الكونية تعجبا، على وجه، فمن أين يكون لي غلام، أو كيف يكون لي غلام تعجبا من الكيفية التي يكون بها ذلك، وسؤالا عن الكيفية من وجه آخر، فلم تكن متعجبة لكمال إيمانها وإنما تساءلت عن كيفية وقوع ذلك من باب بيان المجمل، لا سيما مع غرابته وخروجه عن السنن الكوني المعتاد، ولا يقدح تعجبها على الوجه الأول في كمال إيمانها، فالتعجب من الخارقة الكونية، ولو كانت على جهة التكريم باختصاصها بحمل المسيح عليه السلام أمر غير مستغرب، فقوى البشر لا تقدر على ذلك ليبطل العجب منه، فالإنسان لا يتعجب من المعتاد الذي يقدر عليه بمقتضى ما ركز فيه الرب، جل وعلا، من القوى الفاعلة، وإنما يتعجب مما خرج عن حد هذه القوى من الخوارق التي لا يقدر عليها إلا رب البشر، جل وعلا، فالتعجب رد فعل طبيعي في مثل تلك المواضع، فلا قدح في إيمان البتول عليها السلام على كل وجه، وقيد التعجب بصورة بعينها دل عليها قوله تعالى: (وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ)، فذلك من كمال عفتها وسمو خطاب التنزيل بالتكنية عما يستقبح ذكره صراحة، وذلك من صور تعظيم الرسالة الخاتمة للرسالة السابقة فهي المصدقة لها بشهادة الرسول السابق للرسول الخاتم، فالرسالة الخاتمة قد وفت البتول والمسيح عليهما السلام حقهما من التعظيم والتبجيل فجاءت بلفظ الكناية في المواضع التي لا يليق فيها التصريح لا سيما من المرأة الصالحة، فكيف بأم رسول من أولي العزم، والرواية النصرانية، كما يحكي الشيخ ديدات رحمه الله، لا تصمد للرواية الإسلامية لا من الناحية الإسنادية ولا من الناحية الأخلاقية ففيها من نسبة النقص والعيب إلى الرب، جل وعلا، ما لا يليق بآحاد البشر، فضلا عن الألفاظ الصريحة إلى حد الفحش في مواضع عديدة من الكتاب المحرف، تدل الناظر فيها يقينا عن عبث أيدي البشر في نصوص الوحي، والإسفاف الذي تحويه مئنة من كون تلك اليد يهودية، فهم أرباب إفساد أديان وأخلاق وأبدان من سواهم فرعا عن عنصريتهم البغيضة، فهم الشعب المختار، ومن سواهم دواب في مسالخ البشر، ولا يهتم صاحب الدابة عادة بدين أو أخلاق دابته، فهي حيوان مسخر له، والحيوان لا يكلف بداهة بدين أو خلق!.

ثم ذيلت استيفاء للقسمة العقلية من وجه فطريق الولد في عالم الشهادة: الزواج المشروع وما يكون فيه من المسيس الذي ينتج منه الولد أو ما يكون على خلافه من المحظور، ودفعا للتهمة من وجه آخر فذلك أبلغ في تقرير براءتها من وصف السوء الذي رماها به يهود، وجاء الإيجاز بحذف نون: "أك" توصلا إلى الفائدة، وهي نفي وصف السوء عنها بأقصر لفظ، فذلك، جار على ما تقدم، من تبرئتها على جهة الفور عناية بها وصيانة لها من كل وصف سوء يشينها.

فجاء جواب الملك:

قَالَ كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ: فذلك مئنة من كمال قدرته، عز وجل، فذلك الإيجاد المعجز هين على الرب القدير تبارك وتعالى.

وَلِنَجْعَلَهُ آَيَةً لِلنَّاسِ: فتنكير الآية جار مجرى التعظيم فهو آية كونية باهرة في معرض تقرير كمال ربوبيته، عز وجل، توصلا إلى الغاية فهو: الرحمة: التي بعثت، بالآيات الشرعية الحاكمة فبها يفرد العباد ربهم بالألوهية، فذلك من التلازم المطرد في آي التنزيل بين أفعال الربوبية: خلقا من العدم معتادا كان أو معجزا، كخلق المسيح عليه السلام، وأحكام الألوهية التي لا تعرف إلا من طريق النبوات: الرحمات الربانية المرسلة إلى النوع الإنساني بمادة صلاح الحال والمآل، فبأحكامها يصلح الدين فذلك من صلاح المآل، وتصلح الدنيا فذلك من صلاح الحال، وحال الأمم والممالك في كل عصر ومصر شاهد عدل على ذلك، فإن الأمم التي عرفت النبوة، ولو رسوما دارسة خير وأحسن حالا من الأمم التي لم تعرفها، فكيف بأمة فيها النبوة الخاتمة السالمة من المعارضة والمداخلة، وهي مع ذلك معرضة عنها تلتمس الصلاح في غيرها من شرائع أهل الأرض المحدثة؟!.

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير