فتنكير: (رَحْمَةً): مئنة من التعظيم فضلا عن صدورها من الرب، تبارك وتعالى، فـ: "من" لابتداء الغاية، فهو تبارك وتعالى الذي ابتدأ خلق الرسول في رحم البتول، وهو الذي ابتدأ وحي الرسالة إليه، فمنه، تبارك وتعالى، صدرت الكلمة التكوينية التي خلق بها الرسول، ومنه، تبارك وتعالى، صدرت كلمات النبوة الشرعية التي بعث بها المسيح عليه السلام مصدقا لكلمات موسى عليه السلام، وناسخا لجملة منها ومبشرا بكلمات محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم الخاتمة.
وَكَانَ أَمْرًا مَقْضِيًّا: فذلك من الأمر الكوني النافذ مئنة من كمال قدرة الرب جل وعلا. فقضاؤه نافذ لا راد له وحكمه جار لا معقب له.
فَحَمَلَتْهُ فَانْتَبَذَتْ بِهِ مَكَانًا قَصِيًّا:
فالفاء فصيحة، كما ذكر الألوسي، رحمه الله، على تقدير: فكان ما كان من طمأنته لها فدنا منها في قول، ولم يدن في آخر، فنفخ في جيب درعها فسرت النفخة إلى الرحم، فتحققت صورة السبب، فحملت بإذن الرب، جل وعلا، الكوني النافذ بالمسيح عليه السلام.
فَأَجَاءَهَا الْمَخَاضُ إِلَى جِذْعِ النَّخْلَةِ: على تعدية فعل المجيء اللازم بهمزة التعدية فضمن معنى الإلجاء فذلك من عظم الابتلاء، فعلى قدر الإيمان والولاية يكون تمحيص القلوب بصنوف الشدة التي بلغت ذروتها فقالت عليها السلام: يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنْتُ نَسْيًا مَنْسِيًّا.
فَنَادَاهَا مِنْ تَحْتِهَا أَلَّا تَحْزَنِي: فعقيب الشدة الفرج، فناداها الملك لئلا تحزن، فذلك من عناية الرب، جل وعلا، بها، وأشار أبو حيان، رحمه الله، إلى وجه آخر تكون الفاء فيه فصيحة والضمير راجعا إلى المسيح عليه السلام، على تقدير: فولدته فناداها من تحتها: فتلك آية أخرى ثبتت جنانها، ثم توالت النعم الكونية عناية بها بعد الوضع فـ: قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا: تشربين منه، أو سيدا عظيما، من السرو بمعنى الرفعة كما نقل الألوسي عن الراغب، فذلك على وزان قول الشاعر:
سراة بني أبي بكر تسامى ******* على كان المسومة العراب
ومعنى المنة الربانية في كليهما كائن، فامتن عليها جل وعلا، بوضع سيد عظيم القدر، من المصطفين أولي العزم عليهم السلام، وامتن عليها بماء الحياة لتروي ظمأها، فالجمع بينهما غير متعذر، بل هو أبلغ في تقرير عناية الرب، جل وعلا، بالبتول عليها السلام في ذلك الظرف الحرج.
واكتملت المنة بتيسير أسباب الطعام بعد أسباب الشراب، فـ: هُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ: أخذا بالسبب، وزيدت الباء في المفعول على جهة التوكيد، وجاء جواب الأمر: تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا: فنكرت الرطب تعظيما للوصف أو تكثيرا للقدر، وجاء الوصف بطيب المأكل وصلاحه إمعانا في تقرير عنايته، عز وجل، بأمته مريم عليها السلام.
ثم جاء الأمر على جهة الامتنان: فكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْنًا: فأطنب بذكر المسبَّب عقيب سببه توكيدا فالشبع والري مظنة قرار العين، ثم جاء التكليف الشرعي، على ما اطرد من التلازم بين ربوبية الإنعام والامتنان من الرب، وما تستوجبه من ألوهية الشكر بامتثال الأمر:
فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَدًا فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا: فذلك من المجمل الذي بينه ما بعده: (فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا)، فالقرينة السياقية قد صرفت لفظ الصوم من المعنى المتبادر إلى الذهن وهو الإمساك عن المطعوم والمشروب إلى المعنى المرجوح من الإمساك عن الملفوظ وكان ذلك معهودا في شريعتهم بخلاف شريعتنا فذلك من المنسوخ كما في أثر أبي بكر، رضي الله عنه، لما أمر المرأة الساكتة على جهة التعبد أن تتكلم فليس ذلك من شريعة الإسلام، الشريعة الحنيفية السمحة، في شيء، وإن كان في الشرائع السابقة.
فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ قَالُوا يَا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئًا فَرِيًّا * يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا:
¥