آَيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَمَا يَجْحَدُ بِآَيَاتِنَا إِلَّا الظَّالِمُونَ)
وقد يحمل الكتاب على عموم الكتب المنزلة فتكون: "أل" فيه جنسية استغراقية، كما في قوله تعالى:
(إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ).
فالمعنى عام يشمل كل كاتم أو مبدل في أي رسالة سماوية فلا يختص ببعض دون بعض، فإن كان سببه خاصا بيهود، كما أشار إلى ذلك بعض المفسرين كالبغوي رحمه الله، فلفظه عام فيهم وفي غيرهم، والعبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، فيتناولهم تناولا قطعيا لكونهم سبب ورود العام، ويتناول غيرهم ممن تحققت فيه علة الحكم وهي: الكتمان، كما أشار إلى ذلك صاحب "التحرير والتنوير" رحمه الله.
وقد يحتمل الكتاب أكثر من معنى فيتكرر في سياق واحد بأكثر من معنى فيحتمل العهد تارة والجنس الاستغراقي أخرى، كما في قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا آَمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ)، فالكتاب الأول هو كتاب معهود بعينه وهو: القرآن الكريم فـ: "أل" فيه عهدية، والكتاب الثاني هو جنس الكتب المنزلة قبله، فـ: "أل" فيه جنسية استغراقية.
والكتابة من وجه آخر تحتمل معنى الفرض اللازم، كما في قوله تعالى: (كِتَابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ)، فهو مصدر ناب عن عامله، على تقدير: كتب الله ذلك عليكم أي فرضه.
والشاهد أن الأمر بذكر الخليل عليه السلام في هذا الموضع نوع تكريم وعناية به، فأفرد بالذكر تنبيها على فضله وشرفه، وذيلت الآية بعلة ذلك فـ: "إِنَّهُ" على ما اطرد من تصدير العلة بالمؤكد فذلك آكد في تقرير معنى العلية، فيقدر، كما تقدم في أكثر من موضع، سؤال محذوف دل عليه السياق اقتضاء، وما علة إفراده عليه السلام بالذكر؟، فيأتي الجواب: إنه كان صديقا نبيا.
وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا:
فاحتج على أبيه في إبطال ألوهية معبوداته بأنها معطلة عن أوصاف الكمال من السمع والبصر، فمن لا يسمع ولا يبصر كيف يكون إلها؟!، ولذلك أنكر، عز وجل، على من اتخذ معبودات أرضية فدعا من دونه من لا يسمع ولا يبصر ولا يمشي ولا يبطش ..... إلخ،: (إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُوا لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (194) أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ آَذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا قُلِ ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ كِيدُونِ فَلَا تُنْظِرُونِ)، فهم أموات غير أحياء لا يملكون لأنفسهم فضلا عن غيرهم ضرا ولا نفعا، فدل دليل خطاب الخليل عليه السلام لأبيه على أن ربه، عز وجل، متصف بكمال ما نفاه عن آلهة آزر، فهو متصف بكمال السمع والبصر، على الوجه اللائق بجلاله، وذلك وجه لطيف رد به المحققون من أهل العلم على نفاة الصفات الإلهية، فلو كان الرب، عز وجل، كما ادعوا، لا يسمع ولا يبصر حقيقة، بل تلك مجازات!، لو كان، عز وجل، كما ادعوا، لاحتج آزر على الخليل بذلك فقال: وربك، أيضا، لا يسمع ولا يبصر، فما الفارق بين ربي وربك؟!.
وإلى طرف من ذلك أشار إمام الأئمة ابن خزيمة، رحمه الله، بقوله:
"قد أعلمنا الله جل وعلا في الآي التي تلوناها قبل، (في موضع سابق لهذا الكلام)، أن لله وجها، ذواه بالجلال والإكرام، ونفى الهلاك عنه، وخبرنا في محكم تنزيله أنه يسمع ويرى، فقال جل وعلا لكليمه موسى ولأخيه هارون صلوات الله عليهما: (إنني معكما أسمع وأرى)، وما لا يسمع ولا يبصر: كالأصنام، التي هي من الموتان.
¥